لا ينكر أحد الضائقة المعيشية التي تأثر بها عموم أهل السودان عند حواضر المدن والقرى والفرقان، سهول السودان وهضابه، العمال والموظفون أصحاب الدخول المحدودة، خاصة الأشهر الأخيرة، لكن الواقع يقول إن هذه الأزمة هي إفراز طبيعي لتداعيات أزمة اقتصادية عالمية ليس السودان بمعزل عنها، بكون كل الدول في العالم اقتصادياتها متشابهة، وحركة الاقتصاد وأسلوب إدارة المال مرتبطة ببعضها البعض، فقد طالت الأزمة الاقتصادية أمريكا ودول أوروبا وهي دول اقتصادياتها قوية بالمقارنة مع اقتصادنا كدولة نامية، وخارجة للتو من حرب طاحنة وطويلة لم تشهدها القارة الإفريقية من قبل أقعدتها سنين عدداً، هذا ما يجعلني أجزم بأن الشعب السوداني يعي تماماً بالأزمة الاقتصادية وما يدور حوله من محاولات زائقة لاستغلالها وتوظيفها لخدمة أجندة سياسية، لآخرين يريدون أن يصلوا لسدة الحكم بأي أسلوب، ولكن في تقديري هذا طريق وعر وصعب على هؤلاء، لأن ذات الشعب هو من صبر على الحكومة وعلى سياساتها، وتتعاون مع الدولة أيما تعاون واستجابة لكل برامجها وأطروحاتها، برغم البلاء والمحن وأوقات الشدة، كانت ملامح القرب والالتصاق الحميم دوماً، وآخر صور ذلك التلاحم الجماهيري الذي صدته القوات المسلحة بالجسارة وبروح تضامن ووطنية عالية بين المواطنين والجيش.. كل هذه الصور وأشياء أخرى نبيلة تجللها حالة من الوفاء لتجربة طالت منذ انطلاقة ثورة الإنقاذ، وجلوس الرئيس البشير على كرسي الحكم، تجعلني واثقاً من أن ما يقوم به بعض الناس في الشوارع من تخريب وعدم تعبير بصورة حضارية، ما هو إلا بطولات زائفة وعرضة خارج الزفة، بزعم أن القاعدة الجماهيرية محتجة على الزيادات. لقد صبر أهل السودان على السياسات الصادرة من أهل الحكم من قبل، لصدق منهج ولاة الأمر، قياساً بما هو منجز خلال حكم الإنقاذ فقد أنجزت الإنقاذ ما وعدت به المواطن، ويحمد لها الانجاز المستدام في التنمية وهذا ما لم تنجزه حكومات سابقة، هذه من ناحية. أما وزير المالية الأخ علي محمود فكان ينبغي أن يشكر على شجاعته وتصديه للحالة الاقتصادية الناتجة عن تراكمات السنين، لأن هناك من سبقوه على الوزارة، فكانوا يعلمون جيداً بمآلات الحال، لكن الله لم يفتح على أحدهم بالحديث الصريح والشجاع على المستقبل، حتى تتخذ الدولة تحوطاتها المناسبة.. وقع الفاس في الرأس وعندها قامت القيامة. ولولا شجاعة الوزير علي محمود وفريق الخبراء الذين عاونوه على تحمل كل التبعات والخروج لمجابهة الجهاز التنفيذي وعامة المواطنين بالحقائق لضاع الكل في رمشة عين، ولذلك استهجنت بشدة تصرفات الإخوة أعضاء البرلمان، وهم عصبة الحزب الحاكم، فمن الواضح أن هؤلاء الأعضاء في وادٍ والحزب في وادٍ آخر. فالسياسات التي انتقدوها وطالبوا بسببها عزل الوزير وسحب الثقة عنه في محاولة استعراضية خاوية، هي سياسات مجازة من الحزب أولاً ومجلس الوزراء والقطاع الاقتصادي الجهة الفنية للحزب، وليس من صنع الوزير وحده، فالوزير له شرف المبادرة والشجاعة عند طرح الصراحة كاملة الدسم بضرورة تطبيقها، أما الدفاع عنها فكان لزاماً وواجباً تقتضيه التزامات عضوية حزب المؤتمر الوطني داخل قبة البرلمان، لأن هذه السياسات تمثل رؤية حكومة وحزب ينتمون له، وقد تقلبوا في نعمة طيلة السنوات الماضية«الضاقوا حلوها يضوقو مرها». وإن كان هناك سحب ثقة على طريقة منسوبي البرلمان، فليكن الجميع بذات الشجاعة التي طرح بها الوزير برنامجه، الذي أبان الموقف ورأى شراً يمشي بين الناس، وليكن سحب الثقة من كل الحكومة التي تبنت السياسات وبشرت، لكن الموقف يتطلب من الجميع عدم المزايدة، الناس في حاجة إلى التضامن والتكاتف والالتفاف حول مجمل ما هو مطروح، لعبور هذه الأزمة الاقتصادية، حتى لا نغرق وتغرق البلاد في «كوز مويه».