في مثل هذا اليوم، قبل ثلاثة وعشرين عاماً، سقط النظام الديمقراطي بالبلاد وحلت حكومة الإنقاذ إثر انقلابها على الديمقراطية التي كانت شريكاً أصيلاً فيها في الحكومات الائتلافية التي تمت بين الجبهة الإسلامية وحزب الأمة بقيادة الصادق المهدي. النظام الديمقراطي وقتها كان في حالة اضطراب وصراع بين الأحزاب السياسية المختلفة، فما أن تخرج حكومة حتى تأتي حكومة ائتلافية من جديد: الأمة، الاتحادي الديمقراطي، الأمة والجبهة الإسلامية القديمة ثم الحكومة القومية. وجرت مشادات متعددة بين تلك الأحزاب، ثم دخل الجيش طرفاً بتقديم مذكرته الشهيرة التي عُدّت آنذاك بمثابة انقلاب على الديمقراطية، ثم انتفاضة السكر. الأحزاب جميعها لم تكن على قلب رجل واحد، الكل يريد (الكيكة) كاملة. لذلك عندما حدث الانقلاب لم يُبك عليه نظراً للحالة التي كان عليها، ولم ننس المقولة الشهيرة التي أطلقها الشريف الهندي داخل قبة البرلمان في واحدة من الجلسات الصاخبة، التي انتقد فيها نظام الحكم بشدة، وقال: (والله هذه الحكومة لو أخذها كلب ما في زول حيقول ليه جر) في إشارة إلى أن النظام كان في حالة يرثى لها، والوضع السياسي مضطرب والتغيير يُتسابق عليه، وكل الأحزاب تسعى لإحداث التغيير. والإسلاميون لم يكونوا ضمن الأحزاب المرصودة من قبل الأجهزة الأمنية، لذلك كان تحركهم بحذر، غير أن حديثاً كان قد قاله الأستاذ مبارك الفاضل: إن (سستر) كانت تعمل بالسلاح الطبي، وهي من المنتمين لحزب الأمة، قد شاهدت بعض الأشخاص من بينهم العميد آنذاك عمر البشير واثنين آخرين في معمل طبي داخل السلاح الطبي، فانتبهت إلى حديثهم، لكن العميد آنذاك عمر البشير طلب منها عمل قهوة، فرفضت وقالت: القهوة في بيتنا ما بعملها أعملها ليكم هنا. وقال مبارك إن السستر أخبرت وقتها صلاح عبد السلام الخليفة لكنه لم يعر حديثها اهتماماً أو أنه أخبر السيد الصادق المهدي، وأيضاً لم يعر حديثها أي اهتمام. أذكر قبل الانقلاب بيوم ووقتها كنت أعمل بصحيفة (الأيام) كنت مكلفاً أولاً بمتابعة لقاء بين أعضاء من الحكومة، وكان من بينهم الأستاذ عثمان عمر الشريف، الذي كان يشغل منصب وزير العدل، استمر الاجتماع بمجلس الوزراء إلى وقت متأخر (ما يقارب السادسة مساء)، كما كلفت بمتابعة مناقشة الميزانية بالبرلمان، أصبت بإحباط شديد لم أعرف سببه، فبدلاً عن دخول البرلمان ذهبت إلى المنزل، وعند الخامسة صباحاً تقريباً، ووقتها صديقي رشيد المهدي كان مغادراً إلى دولة الإمارات، فجاء لوداعي عند الرابعة صباحاً تقريباً، ولكنه عاد بعد فترة وجيزة. سألته عن سبب عودته، فقال لي: في محاولة انقلابية. سألته: كيف؟ قال لي: لقد وجدت كوبري النيل الأبيض مغلقاً، وهناك عدد من الجنود يحرسونه وقد منعوني من العبور. تسرب خبر الانقلاب، وأثناء وقوفنا بالشارع جاء عدد من السكان، وأذكر أن رجلاً في بداية العقد الرابع قال هناك محاولة انقلابية، ويقال إن قائدها يدعي عمر البشير، ما زال الاسم يرن في مسمعي، لكن حتى الآن لم أعرف ذاك الشخص، ومن أين أتى ومن أين عرف بالمحاولة الانقلابية واسم القائد؟! جاءت الإنقاذ والظروف كانت أصعب مما نحن عليه الآن، شربنا الشاي ماسخ وبالبلح، وأحياناً تركناه. استمرت الحالة العصيبة، وكأننا في عام الرمادة.. صبر الناس عليها إلى أن تحسنت الحالة الاقتصادية وتفجر البترول وازدهرت الحياة، وانفكت الأزمة الاقتصادية، وارتفع سعر الجنيه وانخفض الدولار، حتى أصبح حالنا أفضل من حال الأخوة المصريين، ولكن لم يُستفد من الظروف العصيبة التي عشناها ما قبل البترول، فكان الحال بعد البترول أشبه بالشخص المعدم وجاءته ورثة من أمه أو من أبيه فانهال عليه المال وبدأ في (بعزقة القروش) يمين وشمال إلى أن انتهت، وعاد إلى حالته القديمة.. نحن الآن نعيش ظروفاً اقتصادية عصيبة أشبه بالحالة الأولى عندما جاءت الإنقاذ.. فهل تنتظر الإنقاذ أن تأتيها ورثة أخرى؟!