وما زلت غارقاً في أمواج نهر رمضان المتلاطمة، وما زال زورقي ينزلق خفيفاً على سطح الماء، ورذاذ منعش يضرب وجهي، فيشع نوراً ووهجاً.. وما زلت أقلب صفحات «حياة الصحابة» ذاك السفر الرهيب والعظيم الذي يصور لنا كيف كان هؤلاء النجوم الزواهر والمصابيح الكواشف، والقامات الفارهة المتسربلة بالحكمة، الغارقة في بحور الإيمان بل الإحسان العظيم. واتصفح الكتاب.. وتأتي ذكرى وأيام وعهد عمر الفاروق.. وحتى وقبل أن تنشق عيوني على هذا الكتاب، ولأكون أكثر دقة وأوضح وضوحاً.. كنت أعتقد أن أمير المؤمنين عمر الفاروق كان قد اجتهد في حكمة وجسارة.. وفي رجاحة عقل وألطاف وأمواج توفيق والهام، فعطل حداً من حدود الله وهو حد السرقة في عام الرمادة، كنت اعتقد ذلك حتى فاجأني الكتاب بأن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أوقف تماماً سهماً من أسهم مصارف الزكاة.. في جسارة وحدة بصر ورشاد بصيرة.. كيف ذلك؟ وهاكم القصة.. فقد جاء أحد اليهود إبان خلافة أمير المؤمنين أبوبكرالصديق جاء متذللاً متوسلاً بل و«مستهبلاً» ومتمسكناً طالباً من أمير المؤمنين أن يقتطعه أرضاً ليعتاش منها، باعتباره من المؤلفة قلوبهم.. هنا كتب أمير المؤمنين ابوبكر الصديق رضي الله عنه رقعة الى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن يقتطع ذاك اليهودي أرضاً، تدرج في سهم المؤلفة قلوبهم.. حمل اليهودي ذاك الخطاب فرحاً مزهواً مستبشراً.. ذهب من توه الى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وما أن قرأ الفاروق عمر الخطاب حتى قال لليهودي في صرامة وقوة وغلظة تليق بذاك اليهودي.. قال له: «لقد كنا نعطيكم سهم المؤلفة قلوبهم عندما كانت الدولة دولة الإسلام وليدة.. وها قد أعزنا الله وأكرمنا بدولة قوية شاسعة وواسعة.. ولن نعطيك مقدار شبر من أي أرض من أراضي الدولة.. بل ستدفع الجزية عن يد وأنت صاغر.. إذهب لا رعاك الله.. وتنتهي الصفحة وتكمل القصة.. وتتبدى الحيرة والدهشة والفرحة.. ويكاد قلبي يخرج من صدري، ويستبد به العجب، ويلعب فيه الطرب، ولا أملك غير أن أهتف ملء فمي.. هكذا كان ابن الخطاب.. وهكذا كان أصحاب رسول الله صلوات الله وسلامه عليهم.. وهكذا كان الاجتهاد والاستنباط والاستكشاف.. وهكذا كان إعمال الفكر وهكذا كانت إدارة الدولة.. وهكذا كان الرشاد.. وهكذا كانت الثقة بالنفس.. وهكذا كان الإلهام.. ولا أملك غير أن أقول إن سيرة عمر الفاروق دروس عالمية تُدرس.. وطريق يجب أن يسير فيه كل من مكنه الله من حكم أو ملك،، أو إدارة شأن عام.. ثم.. لأن الدين الإسلامي صالح لكل مكان وزمان.. ولأنها سلسلة ماسية متصلة.. ولأنها دروس تضيء لنا معالم الطرقات والدروب.. ولأنني أرجو الخير لبلدي لوطني ولأصدقائي.. دعوني ومن وحي هذه القصة أن أخاطب غداً أحبة أعزاء وأصدقاء خلصاء.. لأهديهم هذه القصة مع تقديمي اقتراحات أنا واثق في أنها سوف تتنزل برداً وسلاماً عليهم.. وهي ليست أكثر من هدية رمضانية ومعايدة مسبقة ومتقدمة بمناسبة العيد.. والذي بدأت تلوح بشائره وطلائعه.. فالى بكرة.