في الحلقة الفائتة تحدثنا عن الغياب المؤسسي للمعارضة البرلمانية في هيئتانا التشريعية القومية والولائية الحالية، وطرحنا أفكاراً بشأن تطوير آلية الكتل البرلمانية الراهنة لصيغة أكثر واقعية وعملية، نضمن بها وجوداً فاعلاً للرأي الآخر ووجهات النظر البديلة، جنباً إلى جنب مع التوجه الغالب والمعبر عن سياسات الحكومة وخطها العام، وذلك وفقاً للتقاليد البرلمانية الراسخة، التي تنظر إلى المعارضة الملتزمة بالمنهج الديمقراطي، وبالمسؤولية الوطنية، كضرورة ولازمة من لوازم العمل الديمقراطي الشوري والحكم الراشد. ü ولقد أسعدني حقاً أن ما أثرناه في هذا الصدد، قد أحدث ردود فعل واسعة النطاق، عميقة الفهم، إيجابية المردود سواء المؤيد منها أو المختلف مع ما رأيناه، وإرتأيناه، والذي لا ندعي له كمالاً أو حكمة مطلقة، بقدر ما نرى فيه محض إجتهاد بشري عرضة للتقويم والتقييم، وسوف نتناول بعض وجهات النظر التي وصلتنا في هذا الشأن، في حلقات لاحقة بمشيئة الله وعونه، أن كان للعمر بقية، بعد فراغنا من تناول ما تبقى من أجهزة المجلس. ü لقد سلف القول، ووفقاً لهيكلة المؤسسة التشريعية، فإن الجهاز الذي يلي رئاسة المجلس مباشرة، هو اللجان الدائمة، والتي تغطي الإختصاصات والمجالات الموضوعية لدائرة نشاط البرلمان، بما في ذلك الشؤون القانونية، والاقتصادية، والأمنية، والخدمية، وتلك المتعلقة بالعلاقات الخارجية، وحقوق الانسان، والتوجيه، والمظالم، والاصلاح الاجتماعي، وهيكلة الدولة الادارية. ü لجان المجلس التشريعي الدائمة، هي الذارع الفني المتخصص في دراسة المسائل والموضوعات التي تعرض على المجلس، ورفع توصيات حولها، في شكل تقارير متكاملة ومعدة وفق منهج معلوم ومتعارف عليه، يشارك في صياغته- بجانب المشرعين- تكنوقراط متخصصين ومدربين على هذا النمط من التقارير. ü وكما هو معلوم، فإن فكرة اللجنة عموماً، تستند على مبررات عديدة، منها كسب الوقت، والاعتماد على التخصص، وضمان الكفاءة، هذا فضلاً عن الاعتبارات العملية، إذ لا يتصور أن يقوم مئات من الأعضاء بدراسة كل موضوع مجتمعين، ففي ذلك إهدار للوقت وتضييع للجهد وخلط للأوراق. ü والإجراء المتبع عند مستهل قيام كل مجلس تشريعي جديد، أن يقسم الأعضاء على اللجان الدائمة، وفق ثلة من المعايير، تشمل الخلفية والتخصص، والرغبة الشخصية للعضو، علاوة على التوازن العددي في حجم اللجان، والتناسب في العضوية. ü عمل اللجنة البرلمانية رغم سمته الفنية الظاهرة، الا أنه لا يخلو من الإعتبارات السياسية، خاصة في مؤسسة كالبرلمان تشكل وعاء جامعاً للقوى السياسية ولألوان الطيف الحزبي، وساحة للعراك الديمقراطي والتنافس على السلطة وعلي ادوات صنع القرار. ü رغم ذلك، فإن كفاءة وفعالية كل مؤسسة نيابية تعتمد بل وتقاس إلى حد كبير على مدى نجاح لجانها في تصريف المهام المناطة بها، بموضوعية ومهنية عالية. ü ونجاح اللجان يقوم بدوره على دعائم ومعطيات، من بينها نوعية العضوية والقدرات والخبرات التي يتميز بها أعضاء اللجنة، ومنها المعايير التي يتم بها إختيار رئيسها وكفاءة هذا الرئيس ومزاياه القيادية، وقدرته على المبادرة، وعلى بناء جسور التواصل والتعاون مع الجهاز التنفيذي، ومع قيادات المجلس ورؤساء اللجان الأخرى، ومظان المعلومات والبيانات، هذا فضلاً عن تأثير الأجواء السياسية وطبيعة نظام الحكم السائد، وهامش الحريات والمناورة المتاح والممكن. ü من جهة أخرى، فإن لسكرتارية اللجنة وأمينها العام دور لايستهان به في إنجاز المهام المعنية بالمستوى اللائق والمطلوب، وذلك عبر تنظيم الاجتماعات والدعوة لها، وتسجيل محاضرها، وتلخيص مقرراتها، وجمع المعلومات، والحصول على المستندات والوثائق، ذات الصلة، وتقديم المشورة العلمية أو الفنية، وإعداد المسودات للتقارير، وفي أحيان كثيرة كانت كفاءة السكرتارية وتفانيها ومثابرتها سبباً جوهرياً في الارتقاء بأداء اللجان، وفي سد الثغرات ونقاط الضعف التي قد تعتري مسار عمل اللجنة، مثل عدم تفرغ الرئيس الكامل، أو ضعف مواظبة أعضاء اللجنة على الحضور، أو افتقاد التخصصات المطلوبة لعمل اللجنة بين الأعضاء. أمّا عن عدد اللجان الدائمة، فإن الناظر والمتتبع لمسيرة التجربة البرلمانية السودانية، يلحظ باشفاق كبير التوسع الملحوظ وغير المبرر في حجم هذه اللجان، والتي بدأت بثلاث أو أربع لجان في بدايات التجربة في خمسينات وستينات القرن الماضي، ثم ما لبثت أن تناسلت وتكاثرت بصورة مرضية في أواخر العهد المايوي، وفترة الديمقراطية الثالثة، انتهاء بالوقت الراهن. ü العصر الذهبي للجان الدائمة كان إبان فترة مجلسي الشعب الثاني والثالث (1974- 1979)، إذ كان عدد اللجان الدائمة لا يتجاوز الست أو سبع لجان رئيسية، هي لجان التشريع، الاقتصاد، الخدمات، الأمن والدفاع الوطني، الشؤون الخارجية، وتحت هذه اللجان كانت هناك عشرات اللجان الفرعية، المنبثقة عن اللجان الأم. ü لاحقاً ترهلت اللجان الدائمة بترفيع اللجان الفرعية إلى لجان مستقلة، خاصة لجنة الخدمات التي خرجت منها لجان للصحة والتعليم والمرافق العامة والحكم المحلي، والطرق والاتصالات، ولجنة الاقتصاد التي افرزت لجان للانتاج وللزراعة واللصناعة، ثم جاءت لجان للحسبة والمظالم ولحقوق الانسان، وللسلام، وللشؤون الاجتماعية. ü وإذا استثنينا حقوق الانسان والحكم اللامركزي، باعتبارها قضايا مستجدة، وتتطلب لجاناً مستقلة، فإن باقي اللجان المستحدثة لا تشكل ضرورة تشريعية أو اضافة حقيقية بقدر ما هي معالجة سياسية، الغرض منها استيعاب قيادات جديدة، أو عمل توازنات سياسية أو قبلية أو جهوية. ü في الحلقة القادمة نواصل بإذن الله الحديث حول اللجان الدائمة. والله من وراء القصد