قيض اللَّه أن يبتلى أهل الجنوب برحيل د. جون قرنق القائد الحصيف، الذي كان فكره كبيراً وأحلامه أوسع، والذي لم يكن طموحه عندما وقَّع إتفاقية السلام، أن ينكفئ على الجنوب بعد سنوات طويلة من القتال، بل كان يسعى لسودان جديد، وحياة جديدة، مما جعله يقولها بلا مواراة في اللقاءات الجماهيرية «أنا جون قرنق ده مع الوحدة»، لإدراكه بثاقب رؤيته مخاطر فصل الجنوب عن الشمال، على عكس باقان أموم المهرج في مسرح السياسة، والذي قفز فجأة إلى القيادة عقب رحيل الرجل الكبير، ليسبح عكس تيار الزعيم، وعكس الواقع في الجنوب، مؤكداً عدم تصالحه مع نفسه، وإفتقاده للنظرة البعيدة؛ الشيءالذي يجعل من يفكر في إصدار كتاب عن تناقضاته لا يجد عناءاً، مثلما يختلف مع الكل يختلف مع نفسه، ونجده في آخر تصريحاته يقول: «إن دولة الجنوب الجديدة ستعاني مشكلة عدم وجود منافذ، وعدم وجود المقومات»، هكذا تحدث الرجل الذي يهتف للانفصال، ويقول في ذات الوقت إن قيام دولة منفصلة صعب جداً، ثم يأتي ليقول إن أغلب الجنوبيين مع الانفصال، بالرغم من أنه لم يتم استفتاء الجنوبيين لمعرفة آرائهم، كما لا يستحي أن يقول إن الانفصال سيتم من خلال برلمان الجنوب إذا ما تم تأجيل الاستفتاء؛ متجاهلاً عدم إمكانية ذلك، لارتباط الأمر بإتفاقية السلام التي شهد عليها العالم.. وهكذا تقفز علينا الحالة (الباقانية) كل يوم -وآخر تناقضاتها- فعندما كان الفريق سلفا كير قائد الحركة و رئيس حكومة الجنوب ينتظر قدوم الأستاذ علي عثمان نائب الرئيس قبل أيام في مكتبه بجوبا، وكان نائب رئيس الحركة د. رياك مشار يرافقه في احتفال افتتاح سد مريدي، وميناء منقلا، كان الوحيد الذي لم يحتفل بالإنجاز هو باقان الذي دعا لحظتها أجهزة الإعلام الموجودة في جوبا، لحضور مؤتمر صحفي ليقول خطرفاته وتناقضاته في سياسات تؤكد أنه ليس مع سلفاكير أو مع مشار؛ الذي قال للصحفيين عقب افتتاح السد «إن الحدث من عوامل الوحدة الجاذبة». ويحاول باستمرار أن يظهر للعالم من صوته العالي أنه صاحب القرار بالحركة، وليس سلفاكير أو مشار القائدين، بالرغم من أنه يدري أن القرار بيد (سلفا ومشار) اللذان قاما بمفاجأته عقب زيارته إلى دارفور برفقة عرمان مرشح الرئاسة ودعمه له، وقوله هناك بأنه سيفوز وقول عرمان يومها للجماهير «الكرسي مضمون مضمون»، ليتفاجأ بالإخراج داخل المكتب السياسي بسحب عرمان من السباق، لينبهت المهرج باقان ولا يفعل شيئاً سوى الدهشة، فهو لا يملك قدرات غير التهريج والدهشة في النهاية، هكذا أكدت الوقائع الكثيرة التي ملأ الدنيا قبلها ضجيجاً وانتهت بغير ما أراد. ومن هنا أقول إن الحكومة يجب ألاّ تلتفت لأقوال باقان، فهو داخل الحركة لا يملك إلا إن يهرج فقط، وليس بوسع أقواله القدرة على التحول إلى أفعال، ونتذكر أنه عندما كان يقود المظاهرات مع تجمع جوبا الذي كان يهتف «باقي دقيقة وسلفا بجيبا» لاستمالة سلفا لجوقة المهرجين، كيف فاجأهم السيد سلفا في مؤسسة الرئاسة بوجوده وتأكيده استمرار حركته في الاتفاقية والشراكة، ورفضها لمنهج المهرجين، وكذلك فعل سلفا معه عندما رفضه المركز وزيراً أول بالمسارعة في سحبه، والمجيء بآخر دون الاستجابة لباقان الذي طالبه بالانسحاب من الحكومة. أخيراً: إن الحكومة يجب ألاّ يعير فيلها باعوضة الحركة أدنى التفاتة، وألاّ يرد عليها في الإعلام الداخلي أو الخارجي، حتى لا يظن أنه يزعجها بتصريحاته، وبالتالي يتفرغ ويقبل عليه الإعلام الذي يجنح للإثارة. فالوقائع تؤكد أن باقان الصوت العالي المنادي بالانفصال بلا شعبية، داخل الحركة أو الجنوب، وبلا قرار.. هذه حقيقة لا أقولها أنا، وإنما قالتها التجربة التي مرت فيها الاتفاقية بكثير من المعطيات والأزمات بسبب باقان، وتجاوزتها بهزيمته والمضي للأمام، ومن هذه الحقائق علينا ألا ننشغل بمن (لا يودي ولا يجيب)، ويجب الإهتمام فقط بما يقوله الكبيران سلفاكير ومشار.