كيفما نظرت للأمر ومن أي وجه طالعته، فإن دعوة مرشح منصب الوالي السابق عن حزب المؤتمر الوطني الحاكم في النيل الأزرق لتحويل الولاية ورصيفتها جنوب كردفان، إلى «منطقتي حكم ذاتي» تثير الدهشة مثلما تثير الرعب والفزع في نفوس كل الحادبين على وحدة هذا الوطن شعباً وأرضاً. ü سبب الدهشة الممزوجة بالرعب والفزع ينبع من حقيقة أن من يدعو «بدعوى الحكم الذاتي»، الذي سيكون «التقزيم» أحد تداعياته المنطقية و«التقسيم» أحد احتمالاته المستقبلية القوية هو قيادي في الحزب الحاكم تسنم الوزارة وترشح للولاية، دون أن يعصمه ذلك من تعصبات «الجهوية» التي تستهدف إعادة السودان إلى عهود سبقت، قيام مملكة الفونج بعاصمتها سنار، ذات المملكة التي وحدت أجزاء كبيرة من البلاد، والمفارقة أن فرح عقار ينحدر من تلك المملكة العظيمة التي أسست للسودان الحديث مما يزيد الدهشة وحالة الاستغراب. ü قد يذكر قراء «الاضاءات» الراتبون ما كتبناه هنا عندما دعا «عقار الآخر»- مالك عقار- إلى إقامة منطقة حكم ذاتي في جنوب النيل الأزرق في أحد أحاديثه الصحفية بصدد «المشورة الشعبية» بعد شهور من انتخابه والياً للنيل الأزرق، واستنكرنا ذلك التوجه لدى الرجل الذي يخرج بالمشروع الوطني من حالة «الحكم الاتحادي» ليقترب بوجه من الوجوه إلى «الحكم الكونفيدرالي» وربما التقسيم في مقبل الأيام، تكراراً لما رأيناه في الجنوب بعد «نيفاشا» وفترة الحكم الانتقالي، و«الحكم الذاتي» بهذه الطريقة لن يكون سوى مقدمة منطقية لتقرير المصير- كما سبقت الإشارة. ü لحسن الحظ أن ما سمي ب«مبادرة فرح عقار» لم تجد أذناً صاغياً في أوساط زملائه في قيادة الحزب الحاكم- حتى الآن على الأقل- وإن وصفت مصادر على صلة بدوائر صنع القرار في قيادة الوطني بأنها «جاءت موضوعية في الكثير من محاورها» بحسب تقرير للغراء «الصحافة»، وعللت رفض المبادرة من جانب القطاع السياسي للحزب بثلاثة أسباب رئيسية منها: إن المبادرة لا تختلف في جوهرها عن طرح الوالي السابق مالك عقار، وأن الحزب الحاكم يرفض الاعتراف بقطاع الشمال ولا يريد التفاوض معه، بينما اعترف الدكتور فرح عقار «بالقطاع». وأن الإشارة في المبادرة ل«الحكم الذاتي» أثارت حفيظة الكثير من قادة القطاع السياسي. ü أما د. فرح عقار، وبحسب الصحيفة أيضاً، يرتكز في مبادرته- وهذا هو الأهم بل والأخطر- «إلى أنها نابعة من مواطني الولاية» الذين قال إنه ظل متواجداً بينهم لسبعة أشهر كاملة، التقى خلالها «بكافة مكونات النيل الأزرق» وهذه الإشارة- وحدها- إذا ما صحت نسبتها إلى السيد فرح عقار، تعني أن الرجل بات على قناعة تامة، بأن «الحكم الذاتي» للنيل الأزرق- وكذا لجنوب كردفان- هو تعبير عن «إرادة مواطني المنطقتين» وليس مجرد رغبة قادة اختلفوا أو تمردوا على إرادة النخبة الحاكمة في الخرطوم.. وهي إشارة لا تخطئها العين باقتناع مرشح الوطني السابق للولاية بصحة موقف منافسه الوالي السابق مالك عقار في كل ما ذهب إليه، باعتباره موقفاً يعبر عن «الإرادة الشعبية» لأهل الولاية ومكوناتها. ü د. فرح نسب إليه أيضاً أن مبادرته استندت إلى أربع مرجعيات هي: اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا)، ودستور الولايتين، والدستور القومي، والقرار (2046).. ولا أدري أين هي النصوص المحددة التي تؤيد مثل هذا الادعاء، فنحن لم نقرأ ولم نسمع أن اتفاقية نيفاشا نصت على «حكم ذاتي» للنيل الأزرق أو جنوب كردفان إنما تحدثت- بشكل غامض- عن «مشورة شعبية» وعن استشارة أهل المنطقتين عبر ممثليهم البرلمانيين المحليين حول مدى استجابة الاتفاقية ل«تطلعاتهم»، وتلك هي الفقرة التي اجتهد «مالك عقار» في تمطيطها لتعني فيما تعني أن تلك «التطلعات» قد تشمل الحكم الذاتي، وليأتي «عقار الآخر» من الحزب الحاكم ذاته ليدعم ذلك «التمطيط»، مبرراً ذلك بأنه المدخل الوحيد لوقف الحرب في الولايتين. كما أننا لم نقرأ في الدستور القومي (الانتقالي) أو نسمع أنه يؤسس لاستفتاءات في المنطقتين أو غيرهما- سوى أبيي- لتقرير مصيرهما بين «الحكم الذاتي» أو الحكم الاتحادي في إطار السودان الموحد.. وكل ما ورد في القرار الدولي (2046) بشأن المنطقتين هو وقف الحرب والتفاوض على أساس الاتفاق الإطاري «نافع- عقار» من أجل تسوية الخلافات السياسية والأمنية واستيعاب المنطقتين ضمن إطار السودان الموحد. ü إن توجهات فرح عقار المعلنة من على منصة حزب المؤتمر الوطني الحاكم ترسل ايحاءً قوياً بأن بلادنا تدخل مرحلة جديدة من صراع «التفكيك» أو «التقزيم» أو «التقسيم»- لا فرق- وأن خطورة هذه المرحلة تنبع من أن الدعوة لها تنطلق من ردهات المقر الدائم للحزب- الوطني الحاكم في شارع افريقيا. وأن تداعيات هذه المرحلة لن تقف عند ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، فهناك دارفور التي تعيش حالة اللا سلم واللا حرب بعد اتفاقية «الدوحة»، والتي تنتظر أيضاً التقرير فيما إذا تستمر «بخمس ولايات» أم تعود إقليماً واحداً يضم بطاح ووديان «مملكة دارفور» التاريخية، كما أن هناك اقاليم أخرى شرقاً وشمالاً وحتى وسطاً تجأر بالشكوى لطوب الأرض من «معاملة المركز» والتهميش، فإذا ما استمر «الحبل على الجرار» وطالب كل اقليم ب«حكم ذاتي» فسيأتي قريباً اليوم الذي نبحث فيه عن وطن اسمه «السودان» ولا نجده. ü وقد يسأل سائل- وهو محق- إذاً ما الحل: والحل عندي هو قيام نظام ديمقراطي حقيقي عادل ومنُصف يراعي حقوق كل السودانيين أينما كانوا، يحقق الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية، ويوازن بأدق معايير المواطنة بين الحقوق والواجبات، هذا هو الحل الواقعي و المتاح الذي ظلت القوى الحاكمة تروغ وتزوغ عنه حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه.. نحن لسنا بحاجة ل«اختراع العجلة»، فالعجلة موجودة والمطلوب هو توفير الإرادة لركوبها.. اركبوها يرحمكم الله!