رفدني الصديق ياسر عرمان نائب الأمين العام للحركة الشعبية مشكوراً بباقة من خُطبه وبياناته وأشعاره بثها على بريدي الاليكتروني، بلغت في جملتها عشرة، تمهيداً لحوار طويل ومُعمّق حول الهم الوطني الذي يملأ جوانح كل الحادبين على سلام الوطن ووحدته وتقدمه، كما أبلغني في اتصال هاتفي بين الخرطوم وجوبا حيث يحضر هناك اجتماعات المكتب السياسي للحركة في هذه اللحظة الحاسمة والحرجة في تاريخ الوطن، التي بلغ فيها الخلاف بين الشريكين الحاكمين حافة الخطر. خلاف حول آخر وأهم استحقاقات اتّفاقية السلام الشامل التي أوقفت الحرب في الجنوب، وإن لم تُزِح شبحها العالق في سماء البلاد أو ترسّخ السلام. خلاف ليس حول حق «تقرير المصير للجنوب» الذي أصبح واقعاً معاشاً وتشكلت مفوضيته ولكن حول موعده وإجراءاته، بعد أن وضع الشريكان نفسيهما والبلاد من تحتهما وخلفهما في «مزْنقٍ» كان يمكن تفاديه إذا ما تم الالتزام بالجداول الزمنية المضروبة لكل استحقاق. في ذلك الحوار الهاتفي القصير الذي جرى بيني وبين ياسر بعد أن سألته عن أجواء اجتماعات المكتب السياسي في ظل الأزمة الناشبة، نعى ياسر -بحكم موقعه والتزامه السياسي- على شريكهم «المؤتمر الوطني» بمسؤولية تأزيم الأوضاع، ورأى أن الأزمة في جوهرها سياسية قبل أن تكون مشكلة قانونية حول الإجراءات، أو تفسير المواد والبنود التي انطوت عليها الاتفاقات. مشيراً إلى ما أورده في خطابه بمناسبة الذكرى الخامسة لرحيل د. جون قرنق بالخرطوم في الثلاثين من يوليو الماضي، والذي أرسله لي ضمن المواد التي سبقت الإشارة إليها في صدر هذه «الإضاءة» والذي يقول فيه: كم كانت بلادنا تحتاج لوجود د. قرنق وفكره الثاقب.. ولعل السودان لم يتقاطع تاريخه مع تاريخ شخص مثلما تقاطع مع تاريخ د. قرنق، بالذات تبقت لنا عدة شهور من التوجه للاستفتاء على حق تقرير المصير. وفي ذلك وباسم الحركة الشعبية وقيادتها نؤكد انحيازنا مجدداً لرؤية الدكتور جون قرنق. لذا اخترنا بعناية ورقة للاحتفال بالذكرى الخامسة تحت شعار «د. جون قرنق.. رؤية لا تموت»، وهي رؤية بسيطة وواضحة وليست بها تعقدات. قال الدكتور: إنّ السودانيين قبل أن يكونوا عرباً أو أفارقة، مسلمين أو مسيحيين، جنوبيين أو شماليين، يجب أن يكونوا «سودانيين» ويبنوا نظاماً على نسق من العدالة الاجتماعية والديمقراطية، هذا كل ما قاله الدكتور وفصله في خطابات عديدة ودفاعاً عن الحركة وتحميل الطرف الشريك مسؤولية الأزمة، برغم دعوته و«نفرته» من أجل الوحدة، قال ياسر في ذلك الخطاب: «نحن في الحركة الشعبية، في القطاع الشمالي سنعمل ليل نهار لكي نْعبرُ إلى (وحدة جديدة). لكن الوحدة التي نريدها ليست قائمة على الخداع، وغش الناس، وبيع بضاعة انتهت صلاحيتها واستهلكت، بل نريدها وحدة تعطي للآخرين الحق في أن يكونوا آخرين.. وطُلب منّا في الأيام الماضية أن نشارك في حملات خالية من المضمون والمواهب ولا تقدم جديد، ولن نُشارك في هذه الحملات، ولن ندعو للوحدة تحت هذه الراية». كاشفاً بذلك عن عمق الهوة التي تفصل بين الشريكين، أهدافاً ومقاصد. لكن أهم ما قاله ياسر في ذلك الخطاب هو دعوته للمؤتمر الوطني «أن يستثمر مفوضية المراجعة الدستورية من أجل الوحدة، وأن يقدم طرحاً وعرضاً دستورياً جديداً في قضايا السلطة والثروة والترتيبات الأمنية والمواطنة وأن يزيد سعر الوحدة، فالوحدة بشكلها وعرضها القديم ليست جاذبة، ولابد من تغيير سياسات الخرطوم للحفاظ على وحدة السودان أو حتى وحدة شماله، ولابد من الحرية لكل الآراء الداعية للوحدة أو الانفصال، والجنوب الجديد عليه أن لا يخلق الشمال السياسي القائم على الهيمنة في حالة قيام دولة جديدة، والشمال لن يتخلص من الجنوب السياسي، ولابد من سياسات جديدة للحفاظ على وحدة السودان». واستهلالاً لهذا الحوار المنتظر بيني وبين الصديق ياسر أطرح مجموعة من الأسئلة والملاحظات التي أراها ضرورية لإنارة الطريق أمام حوار صادق ومُنتج: ü ألم تكن أول الرصاصات التي أطلقها الراحل قرنق في الغابة موجهة لصدور الانفصاليين المنكفئين على «مشكلة الجنوب» بعد انطلاق الحركة في 1983، وألم يقل منفستو الحركة -إعلانها السياسي التأسيسي- في مادته الثانية والعشرين «إن الواجب الفوري لحركة تحرير شعب السودان والجيش الشعبي لتحرير السودان هو تحويل الحركة الجنوبية من (حركة رجعية) يقودها رجعيون وتهتم فقط بالجنوب والوظائف والمصالح الذاتية، إلى حركة تقدمية يقودها ثوريون»؟ ü صحيح إن حركة الانفصاليين أو «القوميين الجنوبيين» الذين التحقوا بالحركة أصبحوا جزءً أصيلاً فيها، لكن كيدهم للوحدة لم يتوقف، ألم يكن «تمرد الناصر» هو الذي دفع الحركة، لاحقاً، في المؤتمر الأول بشقدوم «1994» لأن تتبنى -للمرة الأولى- «تقرير المصير» -كخيار تفاوضي- إلى جانب خيارها الأساسي الذي ميّزها عما سبقها الذي هو الوحدة على أسس جديدة، بعد أن تم اعتماد تقرير المصير (رسمياً) للمرة الأولى في لقاء «علي الحاج-لام أكول» في فرانكفورت (يناير 1992) بإغراء من «الإنقاذ» تحت شعار «السلام من الداخل» ولتتدحرج من ثم كرة الانفصال -على أسس غير جديدة- حتى بلغت ميشاكوس ونيفاشا. ü أليس اتفاقية ميشاكوس -تلك المساومة اللا تاريخية- هي التي أقرت فكرة «وقف الحرب وسودان بنظامين»-إسلامي في الشمال وعلماني في الجنوب، تلك الفكرة التي صممها مركز واشنطن للدراسات الإستراتيجية عام (2001) وتبنّاها الكونغرس الأمريكي تحت عنوان «سلام السودان»، وعيّن لها القس دانفورث قيماً على التنفيذ، «لشيء في نفس واشنطن»، فبذرت بذلك بذور الفرقة في وطنٍ كان يؤمل له أن يظل موحداً وديمقراطياً ومستوعباً للتنوع والتعدد الذي تطالب به الحركة، فتحولت بذلك اتّفاقية ميشاكوس إلى «ورطة» يعني النكوص عنها خرقاً وهدماً لاتّفاقية السلام وعودة للحرب؟ ü وأخيراً هل يأمل الأخ ياسر بعد كل هذه السنوات الطويلة من «التمكين» أن يقبل المؤتمر الوطني -لنقرأ الحركة الإسلامية- ويتنازل ليقدم «عرضاً دستورياً» يخالف نهجه وايديولوجيته، حتى لو كان ثمن ذلك هو الوحدة؟ تلك بعض الأسئلة والملاحظات تستحق الحوار وإشراك القراء فيها برغم أننا نتحاور في الساعة (الخامسة والعشرين) كما يقولون، أو في «الزمن الإضافي» بلغة الرياضيين.