وتأتي أبداً.. شمس الثلاثين من كل سبتمبر.. حزينة.. وآسفة.. وكسيفة.. تأتي وفي ذاكرتها.. تلك الأيام المفزعة.. وذاك الهول الهائل.. وهي تلملم أشعتها.. إيذاناً بالرحيل.. لا ترحل وحدها.. بل كان في صحبتها ومعيتها.. ذاك الفارس النبيل.. ناصر العرب.. ليهطل مطر الحزن.. الذي كان دموعاً تدفقت طوفاناً في المنازل.. في الشوارع.. ولست أدري ماذا أكتب وماذا أقول.. عند كل عام.. عند كل ذكرى.. عند كل سبتمبر.. وبأي الحروف أكتب لك يا ناصر.. كما إني لست أدري.. هل أبكي أم أغني.. والشجن أكبر مني.. والأسى أعمق من صوتي ولحني.. كيف أبكي وأغني.. سأغني.. سأغني.. ولم لا أغني.. والأمم العظيمة لا تعتبر الذين رحلوا من عظمائها مجرد ذكرى عابرة.. فهم حياتها المتجددة.. وأملها الذي لا يخيب.. وأعرف أيضاً.. إنه إذا لم تسقط حبة الحنطة لتموت تبقى وحدها، وإن سقطت وماتت تعطي ثمراً كثيراً.. وأعرف أيضاً إنك لست مجرد ذكرى عابرة.. فقد كنت وما زلت وستظل حياتنا المتجددة وأملنا الذي لا يخيب.. وأعرف أيضاً إنك حبة من حنطة.. سقطت وماتت.. وها هي تعطي وستظل تعطي ثمراً كثيراً.. وأعرف أيضاً إنك لم تمت على سريرك كما تموت العير.. فقد مت واقفاً في مطار القاهرة.. وأنت تودع آخر الملوك والرؤساء العرب.. وتحديداً كنت تودع أمير الكويت «الصباح» الذين جمعتهم على عجل.. ليكونوا شهوداً على الرصاص.. والدانات.. وحتى الراجمات التي هرأت ومزقت أجساد المقاومة الفلسطينية في آيلول الأسود.. وأعرف إنك قد وهبت لثورة يوليو عمرك.. منذ فجر ذاك اليوم الأغر.. وحتى آخر ثانية وانت تحمل كل عبء الأمة العربية في صبر الرجال وثبات الجبال.. وهل نقول وداعاً يا ناصر.. وفي ذكراك هل نذكرك يا ناصر.. نرفض.. أن نتذكرك.. لأننا لم ننسك لحظة واحدة.. ولكن.. لك أن تسأل.. ولكن كيف أنتم بعد رحيلي؟.. ونكتب لك من محبرة الدموع.. وعلى قرطاس السواد.. إن كل الديار قد اجتاحتها خيول الردة.. وإن إمبراطورية وجمهورية العدالة والسيادة.. والحرية.. قلعة مناهضة الاستعمار.. تصدعت حيطانها.. وتخلخلت أركانها.. وتشققت جدرانها.. وها هي تشرف على الانهيار.. ركناً.. ركناً.. نكتب في أسى.. إن القطاع العام الذي خضت دونه المستحيل سوف تفككه خيول الردة.. صامولة.. صامولة.. يا خسارة.. ونحن نتذكر تلك الأيام المجيدة.. نتذكر ملحمة سد أسوان العالي.. وتأتي الأمواج.. عالية هادرة.. وتأتي أمواج الشعر متدفقة هاطلة.. وسحابتها الحبلى بالمطر.. عبد الرحمن الأبنودي.. نتذكر.. برج القاهرة.. وهو يحكي من علو شاهق.. كيف يفضح الثوار.. دنس الرشوة.. ونعلم أولادنا.. إن ناصر.. قد وظف أموال الرشوة القذرة.. من أيدي الاستعمار الملطخة بدماء الثوار.. وظفها في بناء ذاك البرج الشاهق.. لتظل شاهداً على نقاء.. ونظافة الثوار.. نتذكر تلك الزهور التي تفتحت في عهدك.. وأنت لها نيل يسقي.. ومطر يروي وطقس ينعش.. وتأتلق حدائق الغناء أنهاراً وظلاً.. وموحدة العرب.. توحد العرب من المحيط إلى الخليج عند الخميس الأخير من كل شهر.. ليستمع ويستمتع العالم.. بروائع غناء أم كلثوم.. ونهر موسيقى عبد الوهاب.. وكلمات كوكبة من شعراء العرب.. يتقدمهم.. السوداني الهادي آدم.. ثم يأتي الأمير عبد الله وحتى اللبناني جورج جرداق.. وفي عهدك البديع.. تدفق عطاء نجيب محفوظ.. ملأ أرفف المكتبات حتى فاضت.. وفي أيام حلمك اشتعلت استديوهات السينما.. فأضاءت كل شاشات الدنيا.. يا ناصر.. ليتك تنهض الآن.. لترى.. تلك الأحلام الكبيرة.. والتي مشت على أرضك وهي تنبض بالحياة.. لترى كيف يتأهب.. الذين ناصبوك العداء حياً وميتاً.. لتراهم وهم يحفرون القبور.. لدفن البدائع والروائع.. لمحو أي أثر من آثارك التي لن تمحوها القرون..