كثيرة هي «الاتفاقيات» التي أبرمتها حكومات شمال السودان المختلفة مع حركات جنوب السودان المتمردة آنذاك، مثل اتفاق الرئيس الاسبق جعفر نميري مع جوزيف لاقو.. مروراً باتفاقية الخرطوم للسلام مع رياك مشار ولام اكول عام 1997، واتفاق مشاكوس عام 2002، ومن ثم أخيراً اتفاقية «نيفاشا» في كينيا عام 2005، مع جون قرنق، والتي انهت أطول أمد صراع وحرب في افريقيا، التي قضت على الأخضر واليابس من أرواح وأموال.. هذا الاتفاق أُطلق عليه، اتفاق السلام الشامل (comprehensive peace agreement)، وهذا الشمول يعني، عزم النية في حل جميع القضايا، وتنفيذ كل البنود والنصوص التي تحويها الاتفاقية، مثل قضايا الحدود، الديون الخارجية، النفط، مشكلة أبيي.. الخ.. ولكن منذ العام 2005 -أي عام توقيع الاتفاقية- هناك مياه كثيرة جرت تحت جسر العلاقة بين البلدين، أو بالأحرى الشعبين، فالتصريحات النارية وحالة التوتر والشد والجذب والأعمال العدائية مثل، «هجوم هجليج»، كانت هي العناوين الأبرز للتوصيف أو للوصف الدقيق للعلاقة بين القطبين -اي الشمال والجنوب- فتعميق دائرة الخلاف وإطالة أمد التراشقات والملاسنات الإعلامية والسياسية من هنا ومن هناك.. أدت الى تجذر أزمة الثقة بين الطرفين، كاد أن يؤدي عدم الثقة هذا الى كارثة لا يحمد عقباها.. كالغاء الاتفاقية من أساسها أو برمتها.. ولكن أدرك «العقلاء» من الطرفين أنه لا فائدة ترجى من هذا الخلاف أو ذاك الاحتراب، ولا جدوى من إطالة أمد وفترة الصراع والأزمة، واللذان يؤديان الى مزيد من المعاناة لشعبي البلدين، والآن ذهبت «السَكرة وجاءت الفكرة».. بمعنى آخر لقد تم التوقيع على الاتفاقية، وجاء دور وموعد تطبيقها على أرض الواقع.. فالأرضية في الوقت الحاضر جاهزة وصالحة وخصبة لتنفيذ الاتفاقية وانزالها على الأرض عملياً، وذلك بالالتزام بنصوصها وبنودها وبكل ما تحويه، مما يسهم في المزيد من الاستقرار السياسي والاقتصادي لدى الدولتين الجارتين، والذين بدورهما ينعكسان إيجاباً على حياة هؤلاء المواطنين، مما يؤدي الى تحسن ظروفهم المعيشية التي تدهورت ووصلت بسبب ارتفاع الأسعار، ومن ثم ارتفاع تكاليف المعيشة الى حد لا يطاق.. حسناً.. أدرك الطرفان أنه لا فائدة تنتظر، ولا ثمرة تجنى من هذا الصراع الوهمي «الدون كيشوتي»، ذهب رئيسا البلدين وجلسا على طاولة اديس، حاملين في معيتهم كل آمال وأشواق وتطلعات شعبي البلدين نحو السلام وتحقيق الاستقرار.. وأخيراً، لقد توفرت الإرادة السياسية لديهما.. ووقعا على العديد من القضايا العالقة والمواضيع الشائكة.. التي كانت موضع خلاف بين الطرفين، ما عدا بعض القضايا مثل قضية «أبيي»، والتي لم يتم التوصل لحل بشأنها، وتم أرجاؤها وتأجيلها الى وقت آخر، لأنها قضية معقدة وشائكة وعصية على الحل. ولكن القضايا التي تم التوصل لحلها من شأنه أن يقود ويؤدي ويساعد ويكون كمقدمة لحل قضية «المنطقة» المتنازع عليها.. إذاً «السياسة» قد فرقت بين شعبي البلدين، ولكن العلاقات الجغرافية والتاريخية والاجتماعية العميقة لا يمكن أن تفرق شملهما، فهي علاقات أزلية ضاربة في القدم ومتجذرة في نفوس مواطني البلدين، وأبناء الشعبين، باعتبارأن لنا تاريخاً وماضياً نتقاسمهما مع بعضنا البعض. فلابد من «الحريات الأربع» وفتح الحدود للتبادل التجاري والتواصل الاجتماعي مع الدولة الوليدة (birth state)، باعتبار أننا كنا ليس دولة واحدة فقط وانشطرت الى نصفين، بل كنا شعباً واحداً وكياناً واحداً وأصدقاء الروح بالروح، فكيف للروح أن تفارق نصفها، وكيف للإنسان أن يفارق ذاته؟! وأخيراً.. وليس آخراً، يجب ألا ننسى أبداً أن لكل شيء خصوم وأعداء، كما للحرب أعداء- يجب علينا الحذر- فإن للسلام أعداء أيضاً.. أعداء الداء وتجار حروب يتكسبون من ورائها، يتاجرون في معاناة الشعوب وآلامها وحتى آهاتها.. هؤلاء وأولئك الساديون الجدد (New sadists)، لم ولن تكون ضمائرهم ونفوسهم آمنة إلا بعد مشاهدة الجثث وقتلى الحرب.. يجب ألا ننسى بأن هناك حرباً دائرة رحاها في جنوب كردفان والنيل الأزرق لم تضع أوزارها بعد، وهناك شيء أيضاً يسمى «قطاع الشمال»، وهو في نظري يمثل «رأس الحية».. فإن لم تقطعه لم ولن تسلم من نهشه أبداً. نتمنى أن تنتهي هذه الحرب سريعاً، لكي تضع حداً لمعاناة هؤلاء المواطنين ولكي نتفرق لمعركة التنمية. ربما هناك العديد من الأسئلة التي قد تتبادر وتقفز الى ذهن القاريء الحصيف، ولا تكاد تفارق مخيلته وتحتل جزءاً من عقله، هل سيُطبق الاتفاق -اي اتفاق أديس أبابا- وإذا طُبق.. هل سيطبق بكامله أم جزء منه؟ على سياسيي البلدين أن يكونوا صادقين مع شعبهم وأن لا يتركوه يفقد فيهم الثقة، وفوق ذلك أن يكونوا صادقين مع أنفسهم والتاريخ الذي لا يرحم أحد أبداً. هل سينهي هذا الاتفاق معاناة الشعبين؟ سننتظر وسنرى!!