كلما قرأت مقالاً لكاتب شكلته مراحل الستينات ذات النهكة السودانية الفاخرة والمذاق الخاص.. تبين لي الفارق الظاهر بين طعم كتابته، وطعم الكتابة السائدة الآن.. ويمتد هذا الإحساس فيشمل الشعر والغناء والموسيقى وكرة القدم والأشجان المحيطة بتلك المرحلة التي عبر عنها أحدهم بقوله: «إن مرحلة الستينات هي البؤرة النقية التي تحج لها الذاكرة». ورغم أن الستينات لم تفرزني كشاعر أو ككاتب صحفي، إلا أنها صاغت وجداني على نحو يشدني إليها كلما شدني شعر، أو هاجني لحن، أو تذوقت أكلاً طاعماً، فقد كنت على أعتاب المرحلة الثانوية قبل نهاية الستينات بعامين، وكان والدي «جزاراً» يستعين بي في العطلات الصيفية ويمنحني نظير مساعدتي له عائداً نقدياً مكن لي الدخول باكراً لحلبة الحياة المتسمة وقتئذ بالأريحية والمحبة والمباشرة المنداحة بشكلها العفوي. كان الناس إخوانا بكل ما يحفر عميقاً هذا التعبير، والغناء مستعذباً لصدق دواعيه، ولا تلمح مشهداً يشيء بعصبية، إلا في ميدان كرة القدم الذهبية المراحل حينها، والخالدة الرموز (كوارتي، ماجد، المحينة، بكري، جقدول، سمير ماشي، جكسا وديم الصغير وعمر التوم)، وصوت طه حمدتو الندي بندى المرحلة يقسم الملعب لمربعات، ولولا براعة الشبل بندر لناءت شباك الشاطيء بعشرات الأهداف، ورموز كرة القدم سبت دودو الذي أظن أن اشتراكه في محاولة حسن حسني الانقلابية عام 1975م جاء لإحساسه بضرورة إرجاع الحاضر حينها لطقس الستينات. وأمطار الستينات كانت دقيقة الموعد، يشد أزرها فريق صادق أذكر أن العطلة الصيفية تبدأ في مارس، وتفتح المدارس أبوابها لاستقبال الطلاب الجدد يوم 14 / 7 من كل عام، ويكون هذا اليوم في العادة ماطراً وظل هذا يحدث طوال دراستي الوسطى. تناغم على صعيد الأرض والسماء تميزت به تلك السنوات، فأين منا أهازيج الخريف، وأين منا: «جاء الخريف وصبت الأمطار والناس جمعاً للزراعة ساروا»!.. ورغم تميز صيف السنوات الآبقة بالحرارة الشديدة، فأنت لا تدري أين يذهب بخار النيل، وأين يذهب صبيب زفراتنا؟! لا نهم في النفوس، ولا نهم للسلطات وتهافت على المناصب وعصبية في الانتماء، ضاعت قسمات الستينات الحليبية في تجاعيد الأزمنة اللاحقة، لم أسمع بكلمة مدخلات أو مضاربة أو مرابحة أو فاتورة بترول في ذلك الأوان المليح. كان عدد الأغنياء الذين مكن لهم الثراء من الدخول في السياق المؤسسي على أصابع اليد (علي دنقلا، أبو العلا، عثمان صالح، أو عاقلة وحافظ البربري)، تشاركهم رأسماليات إغريقية يفيض إنتاجها الغذائي على الألسن بالمذاق الخالد الجميل، ودونك رغيف «بابا كوستا» وسندوتشات جورج مشرقي ودسم ألبان «كافوري». أما لواري «الهوستن» و«السفنجات» والتي تستوردها شركة (سودان مركنتايال) فقد كانت أعلى مراحل الثراء الاجتماعي على مستوى الأحياء والمناطق، ولملاكها وزن اقتصادي يثير الضغائن الطبقية ونعزي الوجدان بالغناء «اللوري حلا بي» و«يا اللوري تشيل منو»، واستحال اللوري لمعشوق يبتهل برؤيته صاحبه على صعيد المفاخرة والأماني، كناقة طرفة بن العبد وفرس أمريء القيس، فأحبط بحركاته مسميات خاصة لكبواته مثل «دق الصاج» و«كسرة عمود الجنبة» فعندما يقول لك صاحب اللوري بأن لوريه «كاسر عمود جنبة» تحس تهدج الصوت المصحوب بالآهة العميقة كوتر بلا اهتزاز. وفوق كل ذلك فهو «دود الخلا» وقرة عين صاحبه، الذي لا يبخل عليه في نهاية المشاوير الطويلة بالحمام المعلن أمام مرأى الأصدقاء عن طريق العفريتة التي ترفعه عالياً وهو باذخ وسط مشاعر صاحبه المفعمة به.. وبحمد الله والصلاة والسلام على النبي.