واليوم إجازة.. من سيل هجومنا الكاسح على الانقاذ.. اليوم نبدأ هدنة هشة مع وقف متقطع لاطلاق النار.. نطبع ليس بالأحرف الأولى.. بل نطبع بحرف واحد «ومكتوب» بقلم الرصاص مع حضور شاخص «لاستيكة» شديدة الكفاءة وهل نعتبرها سياحة في حياض الانقاذ.. أم هي سير بحذر في غابتها الشائكة التي يربض فيها الشيطان.. ونبدأ.. وأول صفحة في قاموس الانقاذ نقرأ فيها بصعوبة بالغة.. ونفهم فيها بعد الاستعانة بمترجم غرابة الألفاظ.. وملحوظة مهمة إن «مترجمنا» هو من «الريف الجواني» وعمره لا يقل عن ثمانين عاماً حسوماً.. نسأله في دهشة عن معنى «لحس الكوع» ونحن نعرف تماماً معنى كلمة «لحس» بل كل الشعب السوداني يعرف أن كلمة لحس لا تأتي إلا وهي مترادفة تماماً مع «الآيسكريم» لأننا نقول «لحس الآيسكريم» وبواسطة المترجم نعرف معنى «لحس الكوع» ثم نسأله عن «البُطان» بالضمة الظاهرة على «الباء» وأيضاً يشرح لنا ذلك «جدنا» والذي هو من الريف الجواني معنى الكلمة.. ونجد في الصفحة الأولى أيضاً كلمة أو جملة «أولاد الحرام» وهذه نعرفها تماماً.. لأننا قد سمعناها مراراً وتكراراً في «شكلات» «الشماشة».. ولكننا نسأله مجدداً عن «بغاث الطير» التي نجدها في قلب الصفحة الثانية.. سؤالنا للمترجم.. هو ان هذه الكلمة يخاطب بها فقط «الطير» ولكن أحدهم في الانقاذ قد خاطب بها جمعاً كبيراً من «البني آدميين» ويشرح لنا المترجم «حسب معرفته» ولكننا أيضاً لم نفهم.. وهو أيضاً قد قال صراحةً إنه «ما فاهم» كيف يصف الانسان بالطائر.. كان بغاثاً أو لم يكن بغاثاً.. وتنتهي الصفحة الأولى من الدفتر.. وتخرج أعيننا من محاجرها.. بل يتدلى «لساننا» عجباً ورعباً.. لأن كل هذه الكلمات التي «زينت» صفحة الدفتر.. لم تنطلق من أفواه الذين هم من الريف الجواني.. بل هم وهذا مصدر دهشتنا وحيرتنا واستغرابنا هم الذين أفنوا عيونهم على ضوء المصابيح.. في مكتبة جامعة الخرطوم.. وفي عهدها الذهبي.. هم الذين حشد العلماء من «الخواجات» أدمغتهم وعقولهم بشتى المعارف الانسانية الراقية والرائعة.. هم الذين تجولوا حفاة على روعة العشب الأخضر.. في الميدان الشرقي.. وعلى الممرات البهيجة.. والساحات المدهشة شرق «المين رود».. والأعجب والأغرب من كل هذا.. إنهم تخرجوا من نفس الجامعة التي أنجبت.. إخوة لهم كانوا ينتقون في مهارة صياد اللؤلؤ أنيق وبديع ورفيع المفردات.. نفس الجامعة التي أهدت الوطن.. علي عبد القيوم و.. نحن رفاق الشهداء.. وأكفنا الراية البيضاء والسلاح.. وبسيماتك تخلي الدنيا شمسية.. بغمزة طفل تتصر وتتفر اذا ضاريتي بالأبنوس سنيناتك.. هي نفس الجامعة التي أنجبت الحافظ الشيخ الزاكي.. ذاك الوقور.. نفس الجامعة التي وهبت الوطن.. ربيع حسن أحمد.. نفس الجامعة التي «ولدت» محمد المكي إبراهيم.. وأي المشانق لم نزلزل بالثبات وقارها.. نفس الجامعة التي وضعت بين ضلوع «ود المكي» حب الوطن.. والموت فناءً وحباً في شعبه.. وقطاره ذاك الذي يبكي ويتلوى عبر الرمال والوهاد والكثبان.. يشق المدن والقرى.. يغشى الأكواخ البائسة المتصدعة حتى يصل الخرطوم.. ليبكي في محطة السكة الحديد ما أتعس رأساً مشلول الأقدام.. بالمناسبة أنا لا أبكي غرابة الكلمات ولا قسوة وغلظة المفردات والأوصاف.. لا أبكي مطلقاً جداول التحقير وأمواج السباب.. هنا أبكي فقط جامعة الخرطوم.. التي وهبت الوطن بل جملت الوطن بأزهار رائعة على ضفتي النهر العظيم يوماً.. وها هي تهب نفس الوطن.. عصي غلاظ.. هل لأن «البطن بطرانة».. مع السلامة حتى بكره