تناولنا في الحلقات السابقة مزايا وعيوب كل من النظامين الرئاسي والبرلماني، وخلصنا إلى أن النظام البرلماني فشل في تحقيق الإستقرار السياسي إبان تطبيقه خلال عهود التعددية الحزبية الثلاثة، كما أن للنظام الرئاسي محاذيره ومخاطره، إذ يمكن أن ينحرف عن مساره، فينزلق إلى مهاوي الحكم المطلق، ما لم يُضبط بالكوابح والموازنات، ويحاط بالتقاليد الدستورية الرشيدة، ويقيد بالأعراف البرلمانية التليدة، ويحرس ببرلمان يقظ، ورأي عام مستنير. ولو تمعنّا في النصوص ذات العلاقة في الدستور الانتقالي لسنة 2005م، والذي تحكُم به البلاد الآن، فسوف نكتشف أنه ورغم غلبة السمت الرئاسي على هذا الدستور، الا أنه في الحقيقة، ينطوي على مظاهر وخصائص للنظام البرلماني بادية وواضحة، مما يجعله مزيجاً من النظامين وخليطاً بين التوجهين. فالنظام الرئاسي المحض وفق أنموذجه الأمريكي الصارخ، لا يعرف شيئاً اسمه الوزير، ولا مؤسسة اسمها مجلس الوزراء، فالوزراء فيه مجرد سكرتيرين أو مساعدين للرئيس المنتخب، والمفوض مباشرة من الشعب، لا من البرلمان، وبالتالي فهم ليسوا مسؤولين أمام الكونجرس، ولا مجال لمحاسبتهم أو مساءلتهم بوساطته فردياً أو تضامنياً. وأيضاً من مظاهر النظام البرلماني التي تشوب إعمال النمط الرئاسي في السودان، حق رئيس الجمهورية في إقتراح القوانين، وإصدار المراسيم المؤقتة عند غياب البرلمان، ووجود وزراء أعضاء في المؤسسة التشريعية، وصلاحية الرئيس في دعوة المجلس للانعقاد. إننا نسوق هذه الملاحظات، وفي ذِهننا، أن القوالب والصيغ التي جربتها بحظوظ متفاوتة من النجاح، دول أخرى، قد لا تصلح لنا بالضرورة، نظراً إلى تباين الخلفيات والمرجعيات السياسية والاقتصادية، والاجتماعية بين بلد وآخر، لهذا فالمطلوب الآن الإنعتاق من البدائل الجاهزة المصممة والمعدة لاجساد غيرنا، وأن نعمل الفكر ونقدح الذهن سعياً إلى تركيبة تلائم خصوصيتنا، وتكفل كفاءة أجهزة الحكم، والسير المنتظم للسلطات العامة في بلادنا. وفي هذا الصدد، يقترح البعض الاستعانة والإهتداء بالتجربة الفرنسية، والتي تسمى بالنظام المختلط، وتعد تمرداً وخروجاً على النمطين المعتادين الرئاسي والبرلماني، وذلك بأخذ شيء من هذا وشيء من ذاك، حتى صدقت المقولة الشهيرة التي نعتت النظام الفرنسي بالبرلماسي، أي الذي يجمع بين البرلماني والرئاسي. وكما هو معروف، فإن الصيغة المذكورة ارتبطت بمجيء الجنرال شارل ديجول للحكم في فرنسا واصدار دستور 1958 الذي شكل الإطار العام للجمهورية الخامسة، وما زال سارياً حتى اليوم. أبرز معالم الأنموذج الفرنسي، هي الجمع بين رئيس جمهورية منتخب مباشرة من الشعب، يتمتع بصلاحيات قوية بما فيها حل الجمعية الوطنية (مجلس النواب)، وبين رئيس للوزراء يسمى الوزير الأول، يختاره رئيس الجمهورية ويعفيه، كما يعين ويعفي سائر الوزراء. والمعمول به بالنسبة لتشكيل الحكومة، أن يطلب رئيس الجمهورية من الوزير الأول تقديم ترشيحات لأعضاء الحكومة، توطئة لاصدار مراسيم جمهورية بتعيينهم، ثم بعد ذلك لابد من أن تنال الحكومة ثقة الجمعية الوطنية. نقطة ضعف النظام الفرنسي هي عدم وضوح العلاقة بين رأسي السلطة التنفيذية، رئيس الجمهورية والوزير الأول، حيث أن رئيس الجمهورية يستأثر بمعظم الصلاحيات، بما في ذلك رئاسة مجلس الوزراء، ومخاطبة البرلمان، وحق اللجوء للاستفتاء الشعبي وحق تعيين أعضاء مجلس القضاء العالي التسعة، وحق حل الجمعية الوطنية- كما اسلفنا- واتخاذ التدابير الاستثنائية عند الضرورة بموجب المادة (16)، ورغم هذه السلطات الواسعة جداً فهو غير مسؤول أمام البرلمان، ولا يحاسب أمامه إلا في حالة التحقيق معه بتهمة الخيانة العظمى. هذه الصلاحيات الواسعة النطاق للرئيس الفرنسي، تجعل ذلك النظام أقرب للنظام الرئاسي منه للنظام البرلماني، وبيد أننا لو اردنا أن نقتبس من الأنموذج الفرنسي فكرة تعايش رئيس وزراء، أو وزير أول مع رئيس جمهورية يملك سلطات غير اسمية، فإن الأمر يحتاج إلى دراسة متعمقة للاحاطة بمزايا ومثالب هذا الخيار. مبدئياً يمكن القول بأن وجود رئيس وزراء يتعامل مباشرة مع البرلمان، ويكون مسؤولاً أمامه عن أداء السلطة التنفيذية، في ظل نظام رئاسي، له فوائده الجمة، ومنها أنه يرفع الحرج عن أعضاء البرلمان في توجيه النقد لسياسات الحكومة، بل وطرح الثقة فيها مجتمعة دون أن يمس ذلك بمكانة الرئيس أو هيبته، وبالتالي يقوي ذلك من دور البرلمان الرقابي ويزيد من فعاليته. بيد أن نجاح هذا الترتيب يعتمد على اعتبارات أخرى، مثل انتماء رئيس الوزراء لذات حزب الرئيس، وإلا واجهنا تعقيدات، كتلك التي نجمت عن الصراع بين الأزهري (رئيس مجلس السيادة عام 1965م) وبين المحجوب (رئيس الوزراء)، عندما جمعت بين الرجلين حكومة ائتلافية ضمت حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي. نواصل بمشيئة الله الاسبوع القادم.