يحكي أن الشاعر العراقي علي بن الجهم قدم على المتوكل من أعماق الصحراء ليمدحه وحين أذن له وقف أمام الخليفة مزهواً وقد كان بدويا ً جافاًً (فصاح) بقصيدة قال فيها: أنت كالكلب في حفظك للود وكالتيس في قرع الخطوب أنت كالدلو لأعدمناك دلوا ً من كبار الدلا كثير الذنوب فكاد الحرس الذين حول الخليفة أن يطيحوا برأس الرجل عن جسده من هول ماسمعوا، فأشار لهم الخليفة بأن يكرموا الرجل ويحسنوا ضيافته، قضى بن الجهم حوالي ستة أشهر في بستان الأمير ينعم بما ينعم به حاشيته، من ولائم وموائد ومغاني، وبعدها استأذن بن الجهم في مقابلة الأمير، وحينما أذن له أسرع يقدم له الطاعة والمعذرة، ويلتمس عنده العفو والمغفرة، ووقف وقد امتطى صهوة بحر الطويل المناسب للمدح و(أنشد) عيون المها بين الرصافة والجسر جلبنا الهوى من حيث ادري ولا أدري، ومن هذه الحكاية يستدل البيئيون إن الإنسان يتأثر ويؤثر في البيئة التي حوله، ولكني أقول إن هناك ثوابت في أعماق الإنسان متأصلة فيه، لا تتأثر كثيراً َ بدليل أن ( بن الجهم) قد استعاض في التشبيه بالحيوان في الموقفين. وجاء في كتاب مروج الذهب للمسعودي أن أهل الكوفة اجتمعوا عند الخليفة المأمون يشكون عاملاً، كان الخليفة يحمد مذهبه، ويرتضي سيرته، ويظنه من أنشط الرجال وأصدقهم، فقال لهم أني أعلم سيرة الرجل، وأنا عازم على القعود لكم في غداة غد، فاختاروا رجلاًً يتولى المناظرة عنكم، فأنا أعلم بكثرة كلامكم. فقالوا: ما فينا من نرتضيه لمناظرة أمير المؤمنين إلا رجل أطرش، فإن صبر أمير المؤمنين عليه تفضل بذلك، فوعدهم أمير المؤمنين بذلك، وحضروا من الغد، فأمر أمير المؤمنين بالرجال فدخلوا والأطرش، فسألهم أمير المؤمنين ما تشكون من عاملكم؟ فقال: يا أمير المؤمنين، هو شر عامل في الأرض، أما في أول سنة ولينا فإنا بعنا أثاثنا وعقارنا، وفي السنة الثانية بعنا ضياعنا وذخائرنا، وفي السنة الثالثة خرجنا عن بلدنا فاستغثنا بأمير المؤمنين ليرحم شكوانا، ويتطول علينا بالأمر بصرفه عنا. فقال له ألمأمون: كذبت لا أمان لك، بل هو رجل أحمد سيرته ومذهبه، وارتضيت دينه وطريقته واخترته لكم لمعرفتي بكثرة سخطكم على عمالكم. قال: يا أمير المؤمنين، صدقت وكذبت أنا! ولكن هذا العامل الذي ارتضيت دينه وأمانته وعدله وإنصافه، كيف خصصتنا به هذه السنين دون البلاد التي قد ألزمك الله عز وجل من العناية بأمورها، مثلما ألزمك من العناية بأمرنا؟ فاستعمله على هذه البلاد حتى يشملهم من إنصافه وعدله مثل الذي شملنا، .فقال له المأمون: قم في غير حفظ الله فقد عزلته عنكم . لقد كان عرب البادية والحضر أدرى بشئون حياتهم وبيئتهم، وتسيير أمور دينهم ودنياهم، فلم يتضجر المتوكل حينما دخل عليه ( علي ابن الجهم ) بألفاظ البادية القاسية، ولم يتضجر المأمون حينما وفد إليه (أهل الكوفة) يشكون إليه الدولة في شخص عاملهم، بل أقام لهم الولائم وحسن الضيافة، ومن الولائم العربية ما تسمى بدعوة ( ألنقري) وهو طعام يدعى إليه الخاصة من الأصدقاء، وتذكرني بالنقري التي دعا لها الاتحاد العام للأطباء البيطريين ( منتهى الصلاحية )، وهي دعوة إفطار في شهر (الصبر) على الطاعات، وقد كانت دعوة خاصة لثلة من الأولين، وقليل من الآخرين، لم تشمل كل الأطباء البيطريين، فمن وسائلها استخدام الرسائل القصيرة عبر المحمول للذين يقعون في ( شبكتهم).. أما الذين (خارج الشبكة) فقد فاتهم دجاج الوالي ومصافحة الخضر والنهل من بركاته. عموماًً الدعوة كانت بيطرية وشرفها (الخضر) كطبيب بيطري وليس كوالي، نشكر من فكر فيها وأعدها وأخلص فيها، وكانت تبدو أنه ينطبق عليها المثل القائل، (الطير يرقص مذبوحا ً من الألم)، فشكلها يقول.. إن هناك حكم للمأمون قادم، وضوء في النفق المظلم لهذه الفئة الصابرة، والتي تقع عليها المحافظة على الحيوان المستأنس والمتوحش والدجنة أيضاً، فقد كان الحيوان مضرب الأمثال في مجالات الحياة المختلفة.. وقيل لحكيم من أتعس ثلاثة أشخاص؟ قال: رجل يلبس القديم ولديه الجديد. قيل ثم من؟ قال: رجل يدعى للعشاء فيطلب المزيد، . قيل ثم من؟ فنظر إلى السماء وأدمعت عيناه فقال: رجل يدعوه البياطرة فلا يستجيب.