لم تزل تداعيات اتفاق كمبالا تغذي روافد الأحداث بالرؤى والتحليلات والمواقف المتباينة حد الاحتدام.. ليس لأن الوثيقة المسماة بالفجر الجديد قد أحدثت اختراقاً هائلاً في بنية القضايا المشكلة كمسألة الدين والدولة أو مسألة الهوية.. أو لأنها اعتمدت العنف كوسيلة للتغيير.. وليس لأنها استطاعت أن تجمع مكونات المعارضة المسلحة والمدنية على صعيد واحد برغم تنافر الأهواء والهويات.. ولكن لأن الوثيقة قد أعادت الأطراف المتنازعة لما قبل ميشاكوس التي تمت فيها أكبر مساومة بين قضية الدين والدولة وقضية تقرير المصير.. حيث دفعت النخبة الحاكمة- وما زالت- ثمن هذا التنازل الإستراتيجي حين أبقت على الأيديولوجيا وتنازلت عن الجغرافيا!! لن أسترسل في حساب الأرباح والخسائر ولن أمعن النظر كرات في خارطة المصالح المتأرجحة هنا وهناك.. لا لشيء إلا لأن المعارضة آثرت أن تنفض يدها وتنقض غزلها وتمارس أسوأ أنواع الهروب والتقية.. لتهدم الاتفاق في مهده وتبطل كل مفاعيله وتبعاته. لكن الحكومة التي أدركت مدى عجز المعارضة وجزعها لم تكتفِ بتراجعات حزبي الأمة والشعبي وانسحاب الشيوعي تحت وطأة ضغوطها هي من جهة.. وضغوط قواعدها من جهة أخرى وتحت ضغوط الرأي العام الغاضب على نقض عرى ما تآلف عليه الناس وأجمعوا عليه بصورة لا يتطرقها النقض وهي حاكمية الدين على الدولة والمجتمع. كان في إمكان الحكومة أن تكتفي بالهراش والتنمر الذي تجيده لكنها أرادت أن تقضي على آثار العدوان وتمحو أي فرص قد تلوح في الأفق لاتفاقات قادمة.. ولتثبت قواعد اللعبة وفق معاييرها وأحكامها وقد أصابت في ذلك نجاحاً كبيراً.. لكن عليها ألا تفرط وتشتط فتأتي النتائج بعكس ما هو مرجو. لقد حمل اتفاق كمبالا بذور فنائه في بنائه.. وإن شئت الاستيثاق من ذلك ما عليك إلا أن تنفذ إلى أجواء التوقيع عبر موقع اليوتيوب لتشاهد بنفسك أن التماسك الظاهري لأطياف المعارضة المتعددة كان يخفي وراءه تناقضات ممضة تبدو على صفحات الوجه وفي فلتات اللسان لا سيما حين تحدث مندوبا حزب الأمة والمؤتمر الشعبي.. وتبدو كذلك في الاعتراضات التي كانت تثيرها مسؤولة حركة القوى الجديدة هالة عبد الحليم وتهمس بها جهراً في أذن عبد الواحد محمد نور وهو في غمرة التشاغل عنها بلحظة انتشاء متوهم.. وتبدو كذلك في الضيق والتبرم البادي على عرمان لابتعاده من بؤرة الضوء ومنصة التوقيع.. كما تظهر في حالة العزلة الشعورية التي كان يتعالى عليها مبارك الفاضل بإرسال سيل الرؤى والتعليقات. ولأن رمزية الفجر لا تبدو متسقة مع تصورات الحركات الثورية المؤمنة بخطاب الهوية الأفريقانية والممعنة في رد الدلالة الرمزية للهوية العربية.. فلا مشاحة إن أسفر الاتفاق عن فجر كذوب خيوطه منسوجة بماء السراب وخوادع الآل. ويبقى فجر التثاقف والحوار الخلاّق رهيناً بصدق النوايا وسلامة النفوس ورهيناً كذلك بفعل مثمر يتسع معه نطاق الأوطان بحجم نطاق الأحلام..!!