نحن نعيش شهر الله رمضان.. وهو شهر للثورة والتغيير.. ثورة على المألوف.. في العادات والسلوكيات وتغيير في أنماط الطريقة الغذائية.. فأنت تجوع نهاراً وتأكل ليلاً. كذلك هو تغيير في السلوك.. ممارسة السماحة والصبر على الأذى.. وكرم ورحابة. وهذا التغيير عندما يتأصل في دواخل النفس وحناياها يمتد فيشمل تغيير الحياة من حولنا.. لنزحف للحياة رافعين راية التمرد على واقعها البائس الظالم. لذلك جاءت معارك التغيير ومواجهة الباطل في تاريخ الإسلام في شهر رمضان: فتح مكة وغزوة بدر. وغزوة بدر.. حدث له طعمه ورائحته ولونه في ذاكرة المسلمين.. والبدريون هم صفوة الصحابة والصف الأول رباهم القرآن وصنعهم صنعه لهم «اختراع قراني». سمى القرآن بدر «يوم الفرقان» لأن المسلمين عاشوا فيه أحلك الساعات.. عددهم «313» وعدد المشركين «1000»، ثلاثة أضعاف المسلمين وهي مواجهة خاسرة للمسلمين بالمعايير العادية.. ولذلك كان البدريون هم ظاهرة استثنائية رباهم القرآن وتتبع سيرتهم التربوية.. واجههم بمواقع النقص في صفوتهم وكاشفهم لكي يرتقي بهم إلى مصاف أهل العزائم فاجتازوا الامتحان بعد أن تخلل صفوتهم بعض الفتور، والقرآن يقص علينا حالهم وقد خرجوا مع رسول الله إلى بدر.. والهدف من خروجهم هو استهداف عير قريش وقد قدمت من الشام محملة بالمؤن والإمكانيات والثروة.. في محاولة لحرب استنزاف وأخبرهم رسول الله خبر العير ولم يصر عليهم بالخروج قائلاً: «هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها» فالأمر فيه براحة وسعة. - خرجت القلة من الصحابة وهم يومئذ 313. - واستطاع أبو سفيان أن ينجو بالقافلة التجارية ويهرب. وأصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرر أن يلاحقهم وهنا دار نقاش في صفوف الصحابة.. بين من يرى أنه لا جدوى لملاحقتهم ما داموا قد فروا ومن يؤثرون رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم. سرى توتر في الصفوف وجرى نقاش.. والقرآن نقل ما يدور في خلجات هؤلاء البدريين وما نالوه في شفافية تخبرك، فقال تعالى «كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنون لكارهون يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون وإذ يعدك الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين». وضوح عجيب.. ونقل للحدث بأمانة تامة، بل نقل للمشاعر وما يحيك في الصدور.. «وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون» «يجادلونك في الحق بعد ما تبين». هذه أرقى ممارسات النقد الذاتي.. يمارسها القرآن ومع من؟ مع قيادات حركة القران وصفوة الداعين له.. لا يتحرج أن ينقل بعض الظواهر الهشة وذلك ليتم مراجعتها وتقويمها وإصلاح المسيرة في عالمنا كله.. أرتال من السلبيات على صعيد الأنظمة السياسية أو أنظمة الحكم والأجهزة التنفيذية يسكت عنها القائمون بالأمر لأنها جزء لايتجزأ من مفاسدهم. البدريون يتلقون الضربة والتوجيه وينحنون لها ويعملون على معالجتها فتتفجر فيهم إمكانيات نهضة.. وخصائص عزائم ليست لها حدود.. ويتجلى ذلك حينما جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في لقاء تشاوري شأن القائد وقام فيهم قائلاً «أشيروا إليَّ أيها الناس». سنلمس كيف انقلب الحال.. والمناخ صعب.. 313 ضد 1000 والإمكانيات ضئيلة.. وأطل العزم والحزم واليقين والتوكل وضعف النفوس.. وعادت إلى منهجها الحقيقي نتيجة النقد والمحاسبة، فقال سعد بن معاذ يرد على رسول الله سؤاله: كأنك تعنينا يا رسول الله؟ قال: بلى، قال فإني أقول «لقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هوالحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامض يا رسول لما أردت فنحن معك، ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى عدونا غداً، إنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر على بركة الله». كلمات تحمل درجة حرارتها التي قيلت بها رغم مضي السنين وهذا شأن المفردات الصادقة الصادرة من القلب. قرائي الاعزاء:كم نعاني في بلادنا وبلاد العرب والمسلمين.. من السكوت على الباطل وعدم تقييم تجاربنا على المستوى التنظيمي والحكومي.. وهذه اللوحة مهداة لنا جميعاً. ومن خلفنا نسوق إلى هذا العالم الذي يفتقر إلى الشفافية وإعادة التقييم.. فهناك أخطاء.. فاحشة وقرارات ظالمة.