بعد أن جفت الدموع التي سكبت مدراراً على فنان الشباب الراحل محمود عبد العزيز، وسكنت مزامير الإثارة في قراءة الحدث، يجدر بنا أن نعود لنستقي العبر: أبدأ باعتراف شخصي- وللقارئ الحق إذا اعتقد بأنه لا يؤهلني لخوض تجربة تقييم هذه الظاهرة- وهو أنني لم أكن ممن يتابعونه إلا نادراً عندما يردد بعض أغنيات الحقيبة، وهذا الأمر في المحصلة هو مشكلتي، أقول هذا لسببين: أولاً: هناك متخصصون كبار شهدوا لصوته من محليين وأجانب.. ثانياً: هذا البركان الوجداني الذي اندلع في الجماهير عند مرضه ونقل جثمانه لم يأت اعتباطاً. بدا واضحاً للعيان أنه استطاع أن يشكل وجدان جيل كامل أغلبهم من مراهقي المدن، من الصعب تجميعهم في كيان وهناك من اعتبرهم حزباً شاملاً!أي خطأ في ميعاد وصول الطائرة أو تغيير مسار الجثمان كان كافياً لاسقاط حكومة (الإنقاذ) التي استعصت على المعارضة.. لم نر مثل هذا الاندفاع في تشييع جثمان، وقد شاهدنا جميعاً جنازات زعماء سياسيين وشيوخ وفنانين، كان آخرهم المرحوم وردي.. ونقول (المرحوم) لأن هناك من شطب هذا الدعاء من شاهد قبره!! إلى أين تمتد جذور هذه الظاهرة التي لم يتجاوز عمرها أكثر من سبعة عشر عاماً (تاريخ ألبومه الأول 1994م).. بل كيف رسم صورته على أعصاب هذه الجموع الغضة من الشباب؟وهل كانت صورته وتجربته تفوق مقام وردي في عالم الغناء؟ أم أنه كان ظاهرة اجتماعية فنية؟ لا يجب أن نذهب بعيداً في الاعتماد على اعتقاد واضح قاطع المعنى، ولكن الأمر هو ما قاله الأستاذ(حسن إسماعيل) في جريدة السوداني، وهو أن هذه الجماهير كانت تبحث في محمود(مفقودات ما) أكثر بكثير من الصوت والألحان.الأستاذ محمود ظاهرة معبرة لقضية جيل من مواليد الثمانينيات، والظاهرة دائماً تبدأ كالزوبعة من أخف مناطق الضغط ثم تتسع وهي (تكنس) معها كل مكونات البيئة، حتى أن الناظر لا يستطيع أن يحدد لها لوناً أو رائحة واحدة، ولا حتى وجهة واحدة، وإذا اتسعت لا يجد نفسه إلا في داخلها، بل ينقاد لها كما فعلت(زوبعة) محمود بعجائز المجتمع السوداني!! انطلق من مدينة (مزاد بحري)، وهو مجتمع مفتوح خال من أبوة طاغية. بيئة تربوية فيها العلاقة وثيقة بين الفكر والمزاج، بل البناء الفكري يتم في الهواء الطلق على نار الحرية الشخصية. عندما تفتح وعيه في بداية الثمانينيات كانت أعاصير (العولمة)، بدأت تقتلع كل شيء في الأسواق، وفي ثقافة الإنسان والسياسة.. ولا ننسى أن القيم الإنسانية زاهية في السودان، ولكنها هشة لمداخلات الأمية والفقر والاستبداد السياسي، وبدا ذلك واضحاً في مآلات تجربة النميري التي كانت قد بدأت تسقط.. سقطت مع النميري مشاريع الأبوة الدينية والوطنية غير المؤطرة التي انطلق منها نميري وصحبه.أخطر آثار العولمة كانت في سحق الأساس الذي قامت عليه الثقافة السودانية، وهو إما أبوة دينية أو قبلية أو سياسية أو طائفية.. القبلية لم تعد لها مكان في مجتمع المدينة.. أما الأبوة السياسية استطاع إعلام النميري أن يحدث شرخاً بينها وبين الأجيال الجديدة، ومن سوء الحظ أن التجربة الديمقراطية في ثورة 1985م أعاد انتاجها، فالشمولية الخانقة هي المحصلة في حكومات الانقلابات العسكرية، وحكومات التجربة الديمقراطية.. تقارب المسافات على أثر الثورة الرقمية، وانتشار وسائل الاتصال أدخل على المجتمع السوداني قيم ثقافات أخرى.. هذا الاشتباك الذي سميناه هنا ب(العولمة) فرض علينا إعادة صياغة في المفاهيم القديمة، أبلغ النتائج كانت انحسار نظام الأبوة القديمة، وأبرز ما اطيح بهم كان الدعاة الدينيون.. تكنولوجيا الاتصال أحدثت فجوة بين الداعية التقليدي والدعوة، وبقدر ما أن العولمة أيقظت الوجدان الديني وزادت عدد المصلين في المساجد، كشفت أيضاً الضعف في آليات الدعاة، هذا الضعف ساعد في نمو مدارس تبشيرية موازية.. بدأت بالتعليم وبلغت الآن حركات تنصيرية وسط الخرطوم، ومحمود نفسه تعلم في الإنجيلية، ولا يجب أن ننسى أن هذه المدرسة قدمت الكثير، قدمت من هم الآن فقهاء بحجم الشيخ عبد الحي يوسف!! نريد أن نثبت بهذا أن هناك نوعاً من (عولمة العقائد) كان قد بدا! وهنا يجب نشير الى أن (الإنقاذيين) من أنصار الحركة الإسلامية وقعوا في فخ العولمة عندما استعجلوا في استثمار الحس الديني.. بعد تجربة الإنقلاب اكتشفوا أن معاولهم الثقافية كانت صدئة، ولكن بدلاً من إعادة تثقيفها قرروا الهروب الى الأمام، وهم الآن في اتون مآزق تجتاحهم من كل جانب!هذه هي الفترة التي انتشرت فيها المدائح النبوية، باعتبارها أكثر بديل مقنع لإنسان حائر، اتسعت ثقافته مع اتساع دائرة الحرية الشخصية. هذه (العولمة) الدينية كادت أن تقنع الفنان وردي ليدخل مجال المدائح، ولكنه بعد تجربة مديح واحدة ارتد معترفاً بفشله، حتى الفنان محمود عبد العزيز حاول أن يساير هذه الموضة فيما بعد، وأعلن صراحة وقوفه الى جانب الصوفية في صراعاتهم مع السلفية بمختلف أشكالها، وقدم مدحة بعنوان (الناس دي بتحب النبي ومحمود دا بيحب الرسول). إذن استيقظ محمود وجيله من (الحواتة) في التسعينيات وهم في حاجة ماسة إلى رمز يملأ الفراغ ولكن هيهات! لم يجدوا أباً روحياً في الدين ولا في السياسة، بحثوا في الأندية الرياضية وميادين الكورة، ولكن ضعف الناتج الكروي بسبب الضعف العام، وضغوط الثقافة المحلية التي تحتقر الكورة وثقافة المقارنة التي انتجتها العولمة الرياضية بمباريات الأندية الأوربية..أبعدت إمكانية أن يخرج رمز من الساحة الرياضية.. بحثوا في فن الغناء ولم يجدوا سوى الفنان وردي، وهو رمز للجيل القديم، وكانت قد شاخت حنجرته ولم تعد كلماته تلامس أحلام هؤلاء الشباب. موضوع الحب في تجربة جيل الفنان وردي دائماً (غائبة) إما بسبب الحرمان الاجتماعي أو بسبب غموض صورتها كما في أغنيات (الرومانسية الجديدة) في السبعينيات.. أما الصورة المطلوبة لجيل الحواتة: هي محبوبة بل عشيقة موجودة تحت الطلب في أي لحظة في الجامعات، في الحدائق، بالموبايل والانترنت. فلم تعد هناك: نار غرام أو سهر ليالي وألم الفراق...إذا أراد أن يسمع صوتها في منتصف الليل فهي متاحة، ورغم ذلك كله هناك مساحة من الحرمان يمكن أن تشعل التجربة العشقية للمراهق.هذه هي المواضيع التي عالجها الفنان ود عبد العزيز، مفرداتها تصلح لرسائل الموبايل قبل أن تبقى أغنية. الغالبية الساحقة من ألبوماته التي بلغت «الإثنين والستين» ألبوماً تعالج قضية واحدة هي أحزان (الخطوة الأخيرة(.. تأمل مفردات أسماء مثل: خلي بالك- سيب عنادك- يا مفرحة- يا مدهشة- لهيب الشوق- الحجل بالرجل- ما تشيلي هم- على النجيلة-برتاح ليك- عاش من شافك- أكتبي لي- عامل كيف- اتفضلي- شايل جراح...الخ.. هذا النوع من الحزن تعتبره كاتبة (صوتي أنا) في (آخرلحظة) بأنه نوع من الحزن الكاذب تقول..( كل هؤلاء كانوا يحبون الحوت الرائع الجميل.. لقد كانوا ومازالوا يمارسون عاداتهم السيئة (الحب سراً والحزن جهراً ).. نحتاج لحزن كثيف كي نتعلم كيف نعيش بلا أقنعة)!! هكذا صورة العشيقة تغيرت في التسعينيات ولم تعد كما كانت لدى (اسماعيل حسن) غائبة ولدى (عمر الدوش) شيء يشبه معنى الوطن. حتى شكل وصورة المفردة تغيرت فلم تعد البلاغة فيها الغموض القريب وجرس الكلمة، بل أصبحت البلاغة هي نوع من الحقيقة، ولكن محتاجة لمن يضعها في مكانها المناسب!! وهذا ما كان يفعله محمود عبد العزيز، ومن أجل هذه رثاه حواتي بعبارة موجزة (خلاص راح اللكان بريحنا)، هذه الملامسة الخطرة لأحلام الحواتة، يشرحها لنا الأستاذ حسام الدين أبو العزائم، وهو صديق شخصي لهذا الفنان، عندما طرق الحب بابه تحدث محمود عبد العزيز نيابة عنه: عندما غنى (يا بت أنا ود الحلة.. وعاشق وحياة الله، فوجدت صوته ملاذاً لي وقلبي خاصة وأنني كنت استمع ل(محمد منير) في (وسط الدائرة). ولكن (محمود)أحاطني لأول مرة بمعنى سوداني وعشق محلي، وكلمة تحكي وتحاكي مشاعر جيلي فكانت البداية.) في إفادات ابوالعزائم هذه يمكن أن نقرأ الآتي: هذه الأغنية قديمة من أغاني الجيل الثاني، أعاد انتاجها الفنان محمود كما فعل مع أعداد كبيرة من أغاني الحقيبة وربما في بعضها فاق أصحابها الحقيقيين.إذن استطاع بالبضاعة القديمة أن يطرد (جداد الخلا) وينتصر ل (جداد البيت).. انتصر لسيد خليفة مثلاً: فانسحب محمد منير وكاظم الساهر.. بهذه العملية الجراحية التي قامت على الاختيار وتحريك الحنجرة، استطاع أن يحرض الأغنية على البقاء في مجرى الريح الثقافي!! في الحلقة القادمة نواصل.. كيف أصبحت الشهرة عبئاً عليه حتى القته في حضن (إدمان)، تآكل على إثره جسده؟ وماهي المعالجات الروحية التي لجأ إليها وكيف كانت النهاية وخلاصة القصة؟