وما زلنا في مدينة النور باريس.. وما زال السماء مشتعلة بمشاعل الثوار.. وتبلغ الثورة ذروتها بعد أن حقنتها ماري انطوانيت.. بدفقة من الاستفزاز.. وتنتصر الثورة.. وتعلن الجمهورية.. والمقصلة تفصل رأس «ماري» عن جسدها في سجن «الباستيل».. وتخفق اعلام النصر شاهقة تشق الفضاء.. بل ترقص الاعلام مزهوة مع دفقات الريح.. والآن نغادر ديار الحرب والكفار.. ميممين شطر ديار الاسلام.. والعودة إلى الوطن.. ننهض من بساط العشب الأخضر في ميدان «الكونكورد» نمر من تحت قوس النصر مودعين برج ايفل في قلب باريس.. ونعود إلى الوطن.. وتعود مراكب ريدنا إلى بر السودان.. وغيوم تلبد سماء الوطن.. ليس سحاباً ولا غباراً.. أو كان هو دخان.. ملبد بزفرات مواطنين عز عليهم رغيف العيش واستحالت عليهم الحياة.. وانبهمت أمامهم الطرقات والدروب.. نعود إلى الوطن ونجد أن امبراطورية «الفرانة» قد أعملت اسنانها الوحشية في رغيف العيش.. فجأة دون أسباب تقرر امبراطورية الفرانة.. إن «اربع رغيفات» بجنيه بدلاً من خمسة.. وتزحف جيوشها الجرارة وهي تحاصر جموع الشعب.. وتنقص الميزان.. تصبح «الرغيفة» تماماً في حجم كرة التنس الارضي.. وهي في قبضة كف الفاتنة المضيئة «سرينا وليامز» تلك الأسطورة ثرية الأعضاء التي أحسن الله توزيعها.. ونستنجد بالسيد وزير المالية نشكو له استحالة «الرغيف» بل نغني في حضرته «قام اتعزز الرغيف عشان بالغنا في أكلو».. يصفعنا سيادته وفي وجوهنا صفقة مدوية.. هي أشد قسوة وإيلاماً واستفزازاً من صفعة «ماري انطوانيت».. قال السيد الوزير حينها.. ولسنا نعرف أن كان مازحاً.. أو ساخراً.. أو مستفزاً.. أو «ما عارف معنى لحديثه» قال لماذا لا تأكلون «الكسرة».. يا إلهي.. ها هو التاريخ يعيد نفسه وها هي التوأمة الحقيقية بين المدن.. ويا لها من توأمة.. بين باريس والخرطوم.. وتبلغ الإهانة.. وتصبح الدهشة.. محور «ونستنا» في المنابر والمقابر في صيوانات العزاء.. وعند صخب وضجيج حفلات الأعراس.. وعلى «البنابر» قبالة «ستات الشاي».. قيل والعهدة على «الجرايد» إن صحفياً بلغ به «الزعل» مداه.. فسأل السيد الوزير.. هل أنت ياسيادة الوزير تأكل «الكسرة» أجاب السيد الوزير.. «لا.. لأني عندي مصران».. وهنا أقول لسيادة الوزير إن غالبية شعبك يشكو من المصران إن كان محظوظاً.. وكم مقدر منهم يشكو من السرطان.. أنا لست مع الذين يقولون إن السيد الوزير كان يسخر.. ولست مع الذين يقولون إنه كان يريد أن يستفز الشعب السوداني.. أنا استطيع أن اؤكد أن سيادته لا يعلم ولا يدري.. إن «الكسرة» أغلى ثمناً من «الرغيف» ولأنني مواطن صالح.. ولأنني أود أن أقدم له خدمة لوجه الله تعالى لا أريد منه جزاء ولا شكوراً.. وحتى ينزل من علاه الفوق» ويعرف الثقافة الغذائية للشعب الذي يحكمه «مالياً واقتصادياً» دعوني أحدثه قليلاً عن «الكسرة». «الكسرة» سيدي الوزير.. هي غالبية الغذاء السوداني.. تصنع الكسرة من الذرة والذرة نفسها تنقسم إلى أنواع كثيرة ولكن كلها يمكن صنع «الكسرة» منها.. من اصنافها «الفتريتة» و«الدبر» و«طابت» و«مايو» قاتله الله.. تطحن الذرة جيداً ثم تخلط بالماء حتى تصير «عجيناً» ثم توضع في «خُمارة» حتى تتخمر.. ثم تبدأ «العواسة» وهنا ولعواسة الكسرة يجب أن تشعل النار بأعواد من الحطب هذا بالنسبة للفقراء من أمثالنا أما الذين فتح الله عليهم هؤلاء يستخدمون الفحم.. ثم يوضع صاج «العواسة» فوق النار ثم تبدأ العواسة.. أرأيت كم هو شاق ومرهق صنع «الكسرة».. وبالمناسبة إن ثمن عشر «طرقات» من الكسرة وهي تعادل عشر رغيفات هو ضعف ثمن الرغيف.. إذا أعلم سيدي أن «الكسرة» أغلى من الرغيف بشكل لافت.. الآن سيدي لنا أجر هذه الحصة.. وبكرة نحدثك عن ذاك الترف الذي يعيش فيه الشعب حسب آخر تصريحاتك.. بكرة نتلاقى