رغم ما قيل وما سيقال عن جلسة الحوار المغلقة التي حضرتها جل قيادت الطيف السياسي في بلادنا، إن لم يكن كلها كانت هي جلسة استكشافية للتوثق من مدى القبول الذي يمكن أن يتوفر لدى الجميع من أجل حوار وطني بناء».. وكيفية اجراء الحوار وضمانات نجاحه. لا يمكن لسياسي عاقل أو أي مهتم بالشأن العام أن يدعى لحوار وطني بناء فيرفض، قد تكون لديه رؤى وأفكار عن مفهوم الحوار وكيفية إدارته وآلياته وإنقاذ قراراته بعد التيقن من مقاصده ومآلاته!! ويختلف في هذا عن الآخرين.. أو لعدم قناعته بتوقيت الحوار وجدواه، وهذا كله ميسور ومقبول ويمكن أن يطرح من خلال الحوار الاستكشافي للوصول الى حلول له والاجماع حوله بالأخذ والرد والحلول الوسطية، من خلال قناعات مشتركة، وذلك عبر ضمانات الإيمان الذي لا يتطرق إليه شك بأن الحوار الجاد والمتواصل هو الوسيلة المنطقية الوحيدة لذلك الأمر. إن الحوار لا يعني إطلاقاً فرض رؤى استباقية أو الإصرار على أنه يجب أن يبنى على أشياء محددة ومطلوبات غير مجمع عليها، وإلا يكون مجرد «حوار طرشان» أو أن تفرض على أطراف من الحوار املاءات محددة تفقد الحوار معناه ومدلوله.. قال الإمام علي كرم الله وجهه: «من مشى مع قوم في حاجة ولم يناصحهم فقد خان الله ورسوله»، من هذا المنطلق أقول لكم: صحيح إن التاريخ هو سياق متصل ليست فيه فراغات ولا فجوات.. والمستقبل فيه استطراء منطقي للحاضر، والبعض يتصورأن حركة التاريخ هذه هي بيان حجج مقنعة.. أو تبدو كذلك، وهذا تبسيط مخل للأمور.. إن حركة التاريخ هي تيارات تتدافع في عنف وليست مناقشات مترفة وحججاً مرتبة توهمنا بأن هناك ممكنات منطقية، ومستحيلات منطقية أيضاً، فالسياسة كلها ليست مسألة منطق منسق، ولكنها إدارة تناقضات متعارضة، وحتى نمتلك القدرة على إدارة هذه التناقضات المتعارضة بوعي وتجرد وسعة أفق، فلابد لنا من أن نمكن للنقد الذاتي والحوار الصحي المتواصل أرضيته تكون لنا المنطلق والملاذ، وهذا لن يتأتى إلا إذا آمنا يقينا بالآتي: أولاً: إن الكمال صفة من صفات الخالق وحده جل شأنه، وإن النقصان سمة الإنسان منذ كان، ولكن مركبات النقص تعمي الإنسان عن عيوبه الذاتية، فيقع في عيوبه المكتسبة!!، انه يفقد شخصيته، يذيبها في محاولة التقليل من قيمة الآخرين وشأنهم ليوجد لنفسه هو قيمة وشأنا!! ثانياً: يجب أن نكون في منتهى الصراحة والشجاعة في ابداء الرأي، لأن المسؤولية المنوطة بنا جميعاً لا تقبل المجاملة والمراء ولا التنطع، وكان الفاروق عمر رضي الله عنه يقول: لا تقولوا الرأي الذي تظنونه يوافق هواي، وقولوا الرأي تحسبونه يوافق الحق!! فالرأي عنده- وهكذا يجب أن يكون عندنا- ليس التماساً للموافقة بل التماساً للحقيقة وواجب الكل البحث في الحقيقة من خلال الحوار لا غيرها... ثالثاً: حقاً أن نصف رأيك عند أخيك، ورحم الله امرئ أهدى لي عيوبي.. يجب أن يكون هذا هو ديدننا في تقبل النقد حتى يثمر الحوار ولتتسع صدورنا وتتفتح عقولنا، لذلك وأن نتحلى جميعاً بالصدق والنوايا الخالصة لله والوطن.. إن الله تعالى لا ينصر قوماً إلا بصدق نياتهم. رابعاً: يجب أن نكون جميعاً في منتهى الشجاعة والصراحة في إبداء الرأي، وتقبل النصح المبني على المنطق بعيداً عن التمترس خلف الآراء الحزبية والجهوية التي جرتنا الى هذه الأجواء المؤسفة من التدابر السياسي وأن يكون شعارنا المرفوع على الدوام: «اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وجنبنا اتباعه». خامساً: إن المشكلة الحقيقية في أي حوار ليست مشكلة «قول وسمع»، وإنما هي قبل كل شيء مشكلة الثقة والطمأنينة اللتين ترفعان من مستوى الشجاعة في ابداء الرأي ومستوى العدالة في تقبله، فالقصد أساساً ترسيخ هذه المفاهيم ليس القول، وإنما بالعمل والممارسة، فالديمقراطية بدءاً ومنتهى مشاركة في التفكير، مشاركة في التخطيط، مشاركة في صنع القرار، ومشاركة في الوطن، وذلك لن يتأتى إلا بالآتي: -احترام كل واحد لرأي الآخر، ومن منطلق هذا الاحترام يحاوره ويبادله رأياً برأي- إعطاء كل ذي حق حقه كاملا في الحوار لابداء رأيه بحرية كاملة، والاستماع إليه بصبر وتفهم عميق دون تأفف أو«لي عنقرة» و«تتفيه» الرأي المخالف أي التقليل منه- أن يكون التركيز في الأصل على القول دون القائل- الحوار الصادق لا يقصد به تفتيت الصف وتوسيع الهوة والشقة، والتشكيك في المقاصد والنوايا بل، يقصد به تأليف القلوب وتنقية الود لا التنفير وإيقاد الصدور وزيادة الشحناء والتباغض. وعليه نقول إن الهدف الأساسي من كل حوار جاد وصادق، هو تبادل الرأي جمع الكلمة ووحدة الصف وإنهاء التدابر والكيد السياسي الذي لا يحترم إلا أعداء الوطن ودعاة الفتنة فيه وخارجه، فلنجعل من كل دعوة للحوار الوطني الجاد السعي الدءوب للوصول الى الحقيقة من أيسر الطرق وأقربها، فالوقت لن يسعفنا جميعاً فبالطبع لا يسعف الوطن فلنتناسى لا أقول خلافاتنا بل أحقادنا وتنافرنا وكيدنا لبعضنا البعض.. وصدق القائل: سامح أخاك إذا خلط منه الإصابة بالغلط وتجافى عن تعنيفه شكر الصنيعة أم غمط من ذا الذي ما ساء قط وله الحسنى فقط نتمنى أن يدرك حكماء وعقلاء بلادنا أن توالي الأزمات والضغوط الخارجية والحروب المستعرة من الأطراف تكفي لتدشين الاستقرار من خلال الحوار الوطني الجاد بتوحيد الجبهة الداخلية للحفاظ على ما تبقى من سوداننا الحبيب، وأن التشتت والتمزق والطعن من خلف لن يستفد منه ويستثمره إلا أعداء السودان. إن التقاط الأنفاس أصبح ضرورة تمليها بل تحتمها الظروف لمصلحة الشعب، فليقر الجميع بأن الحوار أصبح ضرورة وطنية من أجل الوصول الى حلول لكل قضايانا، فالتاريخ لا يرحم وحكمه قاسي.. والله المستعان.. ونواصل..