دلالَةُ هَنْدَسَةِ الحَرْفِ وكَوْكَبِيَّةُ الرَّمْز باسْمِكَ الَّلهُمَّ: فالاستقامة على صراطٍ مستقيم، خطها واحد، ودرجاتها متعددة، وهذا ما يُرمز إليه بحرف (أ)، وهو واردٌ في البقرة ما بين الآية رقم (2)، والآية رقم (5)، وألف المُطلق دون همزة. أما الحرف (ل): وهو محتوى الآيات من (6) إلى (20)، في السورة نفسها. والحرف (ل) يمثل قطع الاستقامة على خط الهدى (ويقطعون ما أمر الله به أن يُوصَل)، فهو يشير إلى وجود موجبات الهدى والصراط المستقيم، بما تنزل من كتاب، وأوحى إلى رسل، وفُضِّل من عبادٍ، فكان وجوباً، أنْ يستمر الإتجاه إلى المُطلق، ولكن الخط وإنْ ظهر في حرف (ل) منحرفاً، بشكلٍ عام، إلاَّ إنَّه يحمل درجاته أيضاً، ولكن درجاتٍ من نفس طبيعته القاطعة للاستقامة، والناقضة لعهدٍ سبق أن عاهدْت اللهَ عليه. فإنَّه كلما تقادم عليه العهد، والاستمرار، بَعْدَت الشقةُ بينه وبين أصل الاستقامة. أما حرف (م)، الذي يرمز إلى دائرةٍ عبثية (ضلال متعدد الالتواءآت)، فإنَّ له ايضاً نسبيته في التوزيع، فهو إذ يبتدي بنقطةٍ في خطِ الاستقامة، ثُمَّ يلتوي عنها زيغاً أو زللاً، فإنَّه التواءٌ متعدد الدرجات، فهو التواءٌ طفيف، بما يماثل حرف (ر)، والتواء أكبر، بما يماثل حرف (ن)، ثُمَّ الالتواء الأكبر، والنقيض للنون إلى درجة الضلال العبثي التكراري، ممثلاً في دائرة، تظل تدور على نفسها. فمعنى الزيغ والزلل يُمَثَل في التواءآت الدائرة في حرف (م)، وهو محتوى الآيات من (21) وإلى (29)، وهي الآيات المبتدئة ب (يا أيها الناس). هنا موقفٌ جدلي، تتفاعل فيه ثلاثية: الهدى والضلال والمعصية، فتفرق الضلالة (التواء)، والمعصية (انحرافاً) عن الهدى(استقامة)، ويُعبِّر اللهُ في القرآن عن أصول هذا الموقف، الرابط والمفارق ل (ألم)، في الآيات من (30) وإلى (39)، وهي الآيات المبتدئة قصة الخليقة، (وإذ قال ربك للملائكة)، ثمَّ يُوضح الله ظواهر، ومعاني (الانحراف) (ل) في الآيات من (40) إلى (103)، وهي من أدق الآيات المبتدئة ب (يا بني إسرائيل). ثمَّ يوضح الله ظواهر ومعاني الهدى المستقيم في مخاطبة المؤمنين، وليس الناس، وذلك في من الآية (104) إلى (286)، والمبتدئة ب (يا أيها الَّذين آمنوا). إنَّ مفهوم الحركة في التأريخ البشري، لا تستوي خصائصه المرحلية في القرآن على التعاقبات الطبقية المتولدة عن بعضها عبر منهجية الصراع، كما هو الحال في تجربة الحضارة الغربية، بل تستوي كأشكال دائرية، بدءً من المرحلة الآدمية، المرحلة الإسرائلية، والمرحلة الثالثة هي المرحلة العربية- الأُميِّة، خارج معنى اللفظ القومي، وقد أُعطيت كل مرحلة من المراحل الثلاث، وَعْيُها الحضاري الخاص، في إطار منهجية الخلق الكوني، ويأتي القرآن كخلاصة نهائية للمراحل الثلاث، من جهة، وكبداية لعصر العالمية من جهة أخرى فسورة البقرة تُعطى السياق التأريخي الكامل لهذه الأشكال الثلاثة، ونجد في مقدمتها، وحتى الآية رقم (29) (من الجزء الأول) معنىً يرتبط بسياق السورة فيما بعد، أي بمنهجيتها، ثمَّ تأتي الآيات من (29)- (39) حول المرحلة الآدمية، ثمَّ من الآية (39) وحتى الآية (141) تتحدث عن المرحلة الإسرائيلية، ثمَّ الآيات من (141)- (286) أي نهايتها، تخبر عن المرحلة العالمية (أي المحمدية)، تتخللها الآيات من (246)- (251)، والتي قد تبدو نشازاً وفقاً للتراتب النسقي والسردي، وتعاقب المراحل الثلاث، حيث تُخبِر عن إحدى معارك بني إسرائيل وملوكهم (قصة طالوت وجالوت وداؤود)، ولكنها تَموضَعتْ هنا، للمقارنة بموقعة بدر الكبرى، للتشابه الكبير بينهما (الفئة القليلة المؤمنة بالمنهج الإلهي، الصابرة، تهزم الكثرة المؤمنة بالمنهج المضاد للهدى، ودين الحق- إبتلاء المؤمنين للتمييز). كما تتجسَّد في السورة (في جزئها الأول) المنهجية الإلهية، على نحوٍ فكري معيَّن، وتقابلها المنهجية المضادة على نحوٍ آخر (آدم وزوجه/ إبليس، فرعون وملأه/ موسى وقومه، العرب كفاتحة لعالمية المنهج/ الحضارة الأوروبية). إنَّ غاية متطلبات المنهج الإلهي هي: تحجيم المطلق الذاتي، بالجمع بين القراءتين في قراءة كونية واحدة، تُبنى على أساسها حضارة الإنسان، ضمن مختلف المراحل الثلاث، وبذلك تتحقق نوعيات الاستخلاف، الاستخلاف الذي يعني بدوره: الفعل الحضاري في الكون ضمن ما هيأه الله للإنسان من قدرات، ووعي يتكافأ وأوضاعه الكونية، وبمعنى آخر: معاودة الاندماج في الرحم الكوني بالوعي، بعد أن تمَّ الانفصال عنه بالخلق. وكما تمَّ الانفصال بالخلق أطواراً، يعود الاندماج بالوعي أطواراً. والأطوار التأريخية الثلاثة: (العائلية والقومية والعالمية)، تماثل الخلق التكويني للإنسان في الرحم في ظلماتٍ ثلاث، وتماثل أطوار انفصاله بالخلق عن الرحم الكوني (مواد مختلطة من النسيج الكوني، تتحول إلى كائنٍ عضوي، يتحول إلى إنسان). خُلاصةُ جزئنا الأول (مبنى وهندسة الحرف)، في مرهدنا هذا، أنَّه: لدينا الآن ستةُ أبواب في سورة البقرة: الآيات من (2) إلى (5)، والمتعلقة بالحرف (أ). الآيات من (6) إلى (20)، والمتلقة بالحرف (ل). الآيات من (21) إلى (29)، والمتعلقة بالحرف (م). الآيات من (30) إلى (39) والمتعلقة ببداية افتراق (أ ل م). الآيات من (40) إلى (103) والمتعلقة بتحليل (ل). الآيات من (104) إلى (286) والمتعلقة بتحليل (أ) وعلاقتها ب (ل) و (م). وهذا غيضٌ من فيض، لدلالة وتحليل هندسة ومبنى الحرف، في سورة البقرة، يُرجى أن يُعطى ومضاتٍ، في فضاء التحليل لآيات القرآن، وقد قدمنا سورة البقرة انموذجاً.