إن الأفكار التي تقود المجتمع هي التي تدخل في نسيجه وصميمه فتحركه من الداخل، لا تلك التي تقفز امامه وتدعوه ان يتبعها!! الأفكار التي تقود المجتمع هي التي تكون في متناوله، وفي إمكانيته استيعابها وبلورتها بداخله عن وعي وإدراك.. أما تلك التي تنشط وتبالغ وتتجاهل الإمكانات والفرص المتوفرة أمامها فهي صيحات في وادٍ سرعان ما تنكمش وتنعزل.. ويضيع الوقت هباءاً في تشييد «المدائن الفاضلة» وتصاميم «الايوتوبيات».. إن الدعوة للحوار الجاد المتواصل هي دعوة مستقاة من إرث متوارث عندنا، نحن أهل السودان في كل بقاعه.. وهي الضمانة لحفظ النسيج الإجتماعي ورتقه إن مسه خلل، وذلك كله متمثل في «الجودية» ومجالسها التي عمادها الحوار الجاد.. ولها آلياتها ووسائل المحاسبة فيها، وفض النزاعات، وإزالة الضرر وضمانات استدامة السلام وإيقاف التنازع مهما كانت نوعيته. إن الحوار الإستثنائي حول القضايا قبل إستفحالها هو شأن العقلاء الذين يقرأون الواقع، ويستولدون منه الرؤى المستقبلية لنزاعات متوقعة إنّ لم تكن حتمية وبذلك يسهل تجاوزها.. وإن ظهرت أي تفلتات هنا وهناك، يصبح من المقدور حصارها وتقليل الخسائر الناجمة عنها. إنك لن تستطيع أن تكون إيجابياً في ظل شروط لا تصنعها أو تكون جزءاً في نقاشها.. فليس من المقبول أن يكون هنالك آخرون يفكرون لك، لحل مشاكلك الداخلية! ويحلمون لك، وتتحول أنت إلى كائنٍ إيجابي لتحقيق ما يرونه هم صالحاً لك من الأفكار والأحلام، فتتلقفها في لهفةٍ، «كالغريب الذي يتمسك بالقشة» فيصبح الواحد منا بدلاً من الأمر في شؤونه الخاصة وعلاقاته البينية مع بني وطنه ليصبح «عبد المأمور» يُوَجْه فَيُطِيع! قضية المثقف عندنا ليست قضية «عجز عن الفعل» ولكنها «عزوف عن الفعل» وبذلك تنعدم «الايجابية» ويصبح الانتظار لتوجهيات الآخرين «فرض عين»!! إذن لابد أن تكون لنا «لغة حوار مشتركة»، وأن تكون لنا مصادرنا، وأدواتنا، ومناهجنا، ومراجعنا المعرفية التي نعتمدها هي الأخرى على حوار عقلاني حاكماً ،وتقف بنا أكفاء على قدم المساواة مع الآخر.. بمعنى أن نكون أصحاب تفكير علمي هادف أولاً، وإلا ضربنا في الظلمات، فتمضي الأجيال ونحن نراوح مكاننا! إن القوة الداخلية لأي إنسان تبدأ من قدرته على إتخاذ موقفاً فعالاً تجاه أي أمر يتعلق بهدفه الأساسي من الحياة، وما أقل من يعرفون كيفية تحديد مواقفهم! وأحياناً حتى تحديد ماذا يريدون!إن الأنانية والشخصنة المتصاعدة هذه الأيام تؤدي إلى حصار الإنسان برغباته، ومحاولة إرجاء هذه الرَّغبات دون إشراك الآخرين في عمل ما مفيد، أو فتح باباً للحوار معهم!إن التعصب والتطرف الذي يقود إلى القتل، هو لونٌ من الأنانية المشوبة بالخوف بكسر أجساد الآخرين بالرّصاص! يحدث كل ذلك لأن عقلاً كهذا هو عقل مهشم منعدم الثقة يدير جسداً خرباً.. فعندما تنعدم الثقة تتوقف عند الإنسان البصيرة ويفتقد الضمير! «إننا لقوم أبت أخلاقنا شرفاً üüأن تبتدي بالأذى من ليس يؤذينا بيضٌ صنائعنا سودٌ وقائعناüü خضر مرابطنا، حمر مواطينا». واهمٌ من يدعي بأن تاريخ المجتمع الإنساني قد أصبح كتاباً مفتوحاً يمكن أن نقرأ المستقبل فيه كما يقرأ ماضيه! وأهم ما يمكن أن نستخلصه من كتاب الإنسانية هو: «إن افتقاد مرونة التعاون مع الغير تقود إلى الإنتحار المعنوي والمادي!» وقديماً قيل: «من كتم داءه قتله»!! الأزمة التي نمر بها هي أزمة فكر لا عقيدة. والفكر الصحيح هو الذي يمكنه إيجاد النهضة الصحيحة. والحوار الجاد هو الذي يأخذ بيد الأمة للخروج من أزماتها الخانقة. فنمط التفكير لدينا لا يساهم مع إنعدام آفاق الحوار في تشجيع الإبداع، وحفز همم التفوق والإبتكار، ناهيك عن النبوغ. ليس الأمر محبطاً تماماً لكنه بالتأكيد يحتاج إلى وعي شديد للإمساك بهذا الخيط الدقيق والفاعل المسمى «بالحوار الجاد المتواصل». يقول د. جميل صليبا في معجمه الفلسفي: «إن الفكرة الصحيحة هي الفكرة الناصعة التي يمكن أن تحققها التجربة، فكل ما يتحقق بالفعل هو حق، ولا يقاس صدق القضية إلا نتائجها العملية، والأمر كله رهن نتائج التجربة العملية التي تضطلع مظان الإشتباه»! وهل هناك في تاريخنا القديم والحديث ما يؤكد أو يقطع مظان الإشتباه مثل «الحوار» هو الذي أوصلنا إلى إستقلال بلادنا، وأكبر الثورات في تاريخه الحديث! وبذا أقول وعلى عكل المثل المتداول عندنا: «الما بجرب المجرب ندمان».. فالحوارعندنا مجرب وناجع وناجح.. فعلينا به. وختاماً أقول لقادتنا جميعاً ونحن نتداعى للحوار «حوار وطني جاد» ما قاله شاعرنا الفيتوري: أيها السائق.. رفقاً بالخيول المتعبة قف.. فإن الدَّرب في ناظره الَّحيل إشتبه. ونواصل