قبل سنوات مضين قُدّر لي أن أشهد رمضان في الحرمين.. بدأت ببلد الله مكة.. ذلك البلد المهيب.. دخلتها مثل العديد من المعتمرين محرماً.. ألبس خرقتين.. وألبي وأطوف.. جلست في صحن الطواف أرقب هذه الجموع.. وهي تطوف.. متلهفة مشتاقة وسألت نفسي.. ما سر هذا التزاحم حول الكعبة وهي بنيان من الحجر.. ذو مواصفات يمكن أن يبنى في أي مكان.. فليس فيه معجزة هندسية.. ولحكمة يعلمها الله كان بنياناً عادياً لئلا يكون التعلّق به من ناحية الفخامة الهندسية. حجرة عالية سميكة يمكنك أن تطرح مواصفاتها في عطاء محلي أو عالمي.. ثم يتم بناؤها فما سر هذا الإقبال؟. عادت بي الذاكرة إلى تاريخ سحيق سجّله القرآن.. والقرآن يُحدّثنا أن نبي الله إبراهيم جاء إلى البقعة من الأرض(مكة) بتوجيه من الله مفاده أن يبحث عن موقع البيت العتيق الذي طمرته عوامل الطبيعة.. عليه أن يجتهد ليعثر عليه.. ثم يزيل عنه الركام ويرفع قواعده ويشيدها.. وكان لإبراهيم قدرات منها حس هندسي سام.. يحدد حدود هذا البيت ومعرفة بفن البنيان... استجاب لأوامر ربه فيما ينص عليه القرآن (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت).. قام بالعمل يساعده ابنه إسماعيل في وظيفة (طلبة) والشيخ هو البناء.. والزوجة الصالحة تمدهما بالطعام.. لقد كانت المنطقة قفراً يباباً.. لا أنيس فيها.. قاحلة.. غير قابلة للزراعة. وعندما فرغ الشيخ من المهمة دعا ربه دعاءً حاراً.. حكى القرآن على لسانه (ربنا إنّي أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فأجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وأرزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون). الشيخ منظم التفكير مرتب التصور.. يقول لربه (هآنذا قد نفذت ما أمرتني به.. ورفعت قواعد بيتك الذي تقام فيه الصلوات لك يا ربنا وتركت ذريتي هذه لكي تقيم الصلاة.. ولكن إقامة الصلاة لابد لها من مُعينات: 1- الأمن العام: (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) ولاحظ التعبير (أفئدة من الناس) وليست شخوصاً وأجساماً ميتة الإحساس وإنما أفئدة والفؤاد هو تجمع أعمال القلب والعقل. 2/ الأمن الغذائي: (وأرزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون). لقد سبق للشيخ أن قرر أن هذا واد غير زرع.. فهو واد يحمل الماء ولكن لا تصلح أرضه للزراعة ويعني أن الشيخ كان ذا نظر في الزراعة وهذه إضافة إلى قدراته المساحية والهندسية فسأل ربه أن تحمل إلى سكان هذه البقعة ثمرات الزراعة واستجاب الله.. فكان هذا الحشد الضخم المستديم.. وكانت هذه الأسواق الملموءة بما لذ وطاب. وينقدح في ذهني أن الله أمدهم أيضاً بثمرات العقول وليس ثمرات الزراعة فقط. طاف كل ذلك بخلدي وأنا جالس قبالة الكعبة أتلمس سر هذا الإقبال على الطواف واستمراريته.. ولعل في هذا السيناريو دلالات كثيرة منها حقيقة وجود الله تعالى.. وأنه فعّال لما يريد وأن بينه وبين بعض عباده خط متواصل إذا سألوه استجاب لهم.. هذه الحشود.. المتراكمة تدل على مدى إجابة الدعوة ومدى مكانة شيخ الأنبياء عند ربه. سبحان الله هذا المهرجان الفخيم الضخم من البشر يتحرّك نتيجة دعاء رجل واحد.. دعاء أطلقه عبر القرون قبل الإسلام.. وتمضي السنون.. ويجيء الإسلام فيجعل من الحج ركناً أساسياً وتتوالى هذه الصور.. تدل على وجود إله فعّال ووجود عباد خُلّص يدعون ربهم فيستجيب لهم. وتتراءى أمامي الصور وتتداعى ويمتزج الماضي بالحاضر.. سبحانك ربي.