لا أود أن أغرق نفسي ووطني في طوفان الدموع.. ولا أود أن أبدد مدادي في حكاوي الأسى على ما فات.. ولا أود أن يبحر قلمي في ذاك الكم الهائل من «لو» تلك التي تفتح عمل الشيطان.. دعنا سيدي نكون كما الهادي آدم وهو ينشد في «كوخ الأشواق» غداً تأتلق الجنة أنهاراً وظلاً.. وغداً ننسى فلا نأسى على ماضٍ تولى.. وغداً نزهو فلا نعرف للغيب محلا.. وغداً للحاضر الزاهر نحيا ليس إلا.. ليس إلا.. سيدي النائب الأول.. جميل أن تحاور الانقاذ المعارضة.. ورائع أن تحاور قطاع الشمال.. وبديع أن تتحدث مباشرة حتى مع حملة السلاح.. وأبهج وأبدع من ذلك أن تحاور «العلمانيين».. ولكن.. إن الأبدع والأروع من كل ذلك أن تحاور الانقاذ شعب السودان الصامت الصابر على المحنة.. تحاوره فقط في طرقات وساحات «قفة الملاح» تحاوره في ذاك الأتون المشتعل بالجحيم الذي يتقلب فيه.. تحاوره في تلك الحياة التي أضحت أمام وجهه مستحيلة تحاوره في ذاك الظلم الذي تعرض له كل من إنتاشته سهام الصالح العام.. وذبحته سكين الطرد من الوظيفة.. تحاوره في صبره على السير ليلاً وفي حلوكة الظلام وأمامه تنبهم الدروب وتنسد الأبواب.. سيدي النائب الأول.. ذاك هو الحوار الذي ينجي الله به الانقاذ من طوفان الغضب.. ولأن من العواصف ما يكون هبوبها بعد الهدوء وراحة الربان.. ثم.. لماذا لا تحاور «بالمحاكم» والشرطة.. وترباس السجن العتيد بعض «الإخوان» الذين حامت حولهم شبهات الولوغ في المال العام.. لقد إمتلأ الفضاء عن آخره بقصصٍ وحكاوي فساد بعض الإخوان.. ولا تكاد تصدر صحيفة واحدة في البلاد خالية من تجاوز أو اختلاس أو فساد.. وهنا يكمن الخطر. سيدي النائب الأول.. الخطر هو أن يسري الوهن وتستوطن اللامبالاة وأن يتمدد اليأس في نفوس الشعب.. الخطر هو أن يجهر الناس بالسؤال الذي مازال يتجول بحرية في كل الصدور.. وهو.. معقولة بس ثلاثة وعشرين سنة ولا يقدم ولا مسؤول واحد للمحاكمة بتهمة الفساد المالي. مولانا الوقور الأستاذ علي عثمان.. واليوم أختم مؤتمري الشعبي.. والذي أقمته خصيصاً لإبداء بعض ملاحظاتي لمؤتمرك الصحفي المحضور.. بل أستطيع أن أجزم بأن مؤتمري هو صدى لمؤتمركم الذي كان رزازاً منعشاً.. رطب أجواءً كانت مشتعلة بالجحيم والسموم.. وإن كنت أتمناها وابلاً يهطل ووادياً يزهر إن سحت عليه أمطار.. كنت أتمناها سيلاً هادراً وكاسحاً أشدَّ صخباً واصطخاباً من سيل أبو قطاطي ذاك الذي «وكت يكسح ما يفضل شيء».. سيلاً يكتسح كل قبيح.. أخذ مكاناً في وجه الوطن الصَّبوح.. اليوم وفي ختام مؤتمري.. دعني أطوي المساحات الشاهقة التي تفصل بيني وبينك كأحد الحرافيش.. لأحرق المراحل وأقفز بالزانة حتى أحمل كلماتي هذه إلى مكانكم العالي.. سأحاول ما استطعت أن انتقي- كعادتي- أكثر الحروف وسامةً وأرق الكلمات نقاءً وألبق العبارات تهذيباً..وأقول.. لقد تأخرتم كثيراً سيدي النائب الأول.. نعم إنه أن تأتي متأخراً خيراً من عدم «الجية» أبداً.. نعم ثلاثة وعشرين سنة وتزيد.. كانت عمراً طويلاً وغرساً دائباً وحصاداً فقيراً.. وقليلاً.. لا نملك غير أن نحيلكم للمقارنة فقط إلى دولة اسلامية «مثلكم» وقائد أيضاً «مسلم» مثلكم ولولا إني أخاف البُّهتان والكذب غير الضار لقلت إنه «أخ مسلم» «زيكم» وإن كان ناطق بغير العربية.. إنها «ماليزيا» الرجل خاطب شعبه بعد أن آلت إليه مقاليد السلطة.. قائلاً.. سوف ننهض بماليزيا لتصبح قوة اقتصادية هائلة بعد عشرين سنة فقط.. عندها كانت ماليزيا وكأنها تزحف على بطنها كانت تظللها رايات البؤس وتخفق فوق رأسها تماماً أعلام الفقر والتخلف والبؤس والمسغبة.. ثم بعد عشرين سنة سطعت ماليزيا قمراً أضاء كل العالم.. وتصاعد دخان مصانعها حتى ثقب الأوزون.. سيدي النائب الأول.. ولا مسؤول واحد حامت حوله شبهات فساد مالي قُدِّم لمحاكمة أو استجواب أو حتى مساءلة.. وهل هؤلاء «الإخوان» بشر أم ملائكة هبطوا من السماء.. لك التحايا..