منذ عام 1989م لم أشاهد قريتي الحبيبة-الأركي- من أعمال مركز مروي سابقاً، ولكنني حين أتيتها في ذلك العام، رأيتها وهي تلعق جراحها من آثار عقاب حبيب قاس هو النيل العظيم الذي ظل حفياً بها عبر القرون، وراعياً لضروعها وزروعها وحليب أطفالها، بل ولقبور من رحلوا من أهلها.. تلك رعاية تجلت في اسمها-الأركي- منحوتاً من لغة النوبة القديمة- فمعناه الأرض الخصبة، عندما عدت الى القرية حاولت التنفس برئتي القديمة، لكن ركام أحزاني تضاعف وأنا أرى الركام الفيضاني يبدد في ذهني صوراً قديمة، فلا المكان هو المكان ولا النخل هو النخل.. لم أتبين الطريق الذي كنا نسلكه الى دكان العم عثمان ود علوبة، ولا الطريق الى جزارة أحمد عباس، ولا ممرات الحمير السريعة نحو طاحونة طه كرنديس في جلاس، أو طاحونة ود تورنة في الركابية.. بيت الحاجة نفيسة بت حمد الذي كنت تراه من أعلى قوز، خلوة جدي الفكي محمد محمود ابسوار، أصبح طللاً دارساً حتى شجرة الحناء التي كان يستظل تحتها زير ماء بارد للغاشي والماشي، أصبحت كنخلة مجاورة منقعرة، أمام ركام البيت البسيط لجدي علي ود ابسوار.. تأملت حال صور كثيرة كانت مثبتة بشوك من الشدر في خاصرة الجدار، هي الأخرى أصبحت من عناصر ذلك الركام المحزون، وكأن الذي ضربها ليس هو النهر الحنون وإنما زلزال مباغت انزوت على أثره أصوات القماري وحناجر المادحين. 2 عدت الآن بعد 24 عاماً قضيتها في مدن وحشية، حالماً بأن يسامحني التمر البركاوي ويغفر لي عيش الريف، وتستقبلني القرية بالنوبة والطنابير، وإن لم يكن السُمَّار هم السُمَّار، والمادحون هم المادحون.. النخل العجوز رمقني بنظرة عتاب، والجروف تتماوج تحتي كأن زلزالاً يمنعني من السير فوقها مخترقاً المسافه بين ساقية علي وترعة العمدة.. صحيح أن السواقي الست ساقية الكوكنجي، ونوبيا تعني ساقية كوكو، وساقية شمبو، وساقية علي وابعجاج، وساقية فحل، أتت كلها بصوانيها إيلاماً لي مجتمعة في درب الترك أمام ضريح الفقير ود الكندري، ولكن أحبابي لم يكونوا هناك، فاختفت شلوخ جميلة، وأصوات حنونة، ودعوات حميمية، وهذا طبع الزمن.. المهم في تلك الليلة أستقبلني أهلي كمحمد عبد الحي في فضاءات سنار، وفتح لي حراس القرية باباً ولجت من خلاله الى مكان أصبح الآن حقلاً نفطياً يتمدد في عروق الوطن خيراً وبركة. 3 كنت أشاهد نار مصفاة بترول قرية الأركي في العربة السريعة التي انطلقت بنا من مطار مروي نحو الأركي، وفي خاصرة جبل البركل أبصرت نار المصفاة كنار موسى، ليلاً فبشرت أهلي.. ومع توغلي في القرى بين مروي والأركي، كنت أري مشهداً مغايراً تماماً، ففي مكان بيوت كانت تعرش بالجريد في شبا، والكرو، وفتنة، والأراك، والمقل، والبرصة، أري الآن شققاً فخمة، وعيادات جيدة وملاعب، حتى مكيفات الاسبلت وأبراج الاتصالات، ومحطات تنقية مياه الشرب، وأصنافاً من العربات التي لم أر مثلها حتى في منافيَّ البعيدة... مظاهر كلها- وكما أخبرني السائق- أنها تمددت من ستة حقول نفطية افتتحها الدكتور عوض الجاز بحضور رئيس الجمهورية... حقول وللعجب تفجرت نفطاً في أماكن مُترات السواقي الست، فأصبحت تعرف بحقل ساقية علي، حقل الكوكونجي، حقل أبعجاج، وحقل ساقية فحل، وقد علمت من زميل لي يدرّس الجيولوجيا بجامعة الخرطوم، أن حقول الأركي هي من فئة النفط الخفيف الممتاز سريع السيلان قليل الشمع.. مع توغلي في المكان كنت أرى أنابيب عملاقة تزحم المساحة التي تشغلها جزيرة أوتد لتعبر النهر نحو كورتي المتاخمة للفضاء الكردفاني، ليرتبط أنبوب الأركي مع الأنبوب القومي، ومن هناك الى ثغر الوطن الباسم. 4 جلست بعد أيام من النوم البعثر وفرَّق الزمن الذي يسمونه بالjet lag الى الكمبيوتر لتقديم استقالتي من جهة عملي في بلاد الخواجات، فأنا الآن في قرية النفط، أكون في حل من ديوني ومطبات الكردت كارد ووقت يستهلكك كما تستهلك النار قطعة ثلج صغيرة.. عندما طرقت أناملي جهاز الكمبيوتر، رن منبه يوقظني كل يوم الى العمل صباحاً.. عندما نهضت لم يكن النخل ولا أنابيب النفط، ولا نار المصفاة حولي.. المصفاة إن نار المصفاة لم تكن سوى نار وجد أضرمها ذلك الحلم العجيب في وجداني وقلبي، فنهضت بحزن متجدد مردداً: أطرد الأحلام يا جميل وأصحى!!