فرق بين أغاني البنات وغناء السيدات مثل الفرق بين «ورا.. ورا.. ورا» وبين «أغداً القاك..» التي كتبها الشاعر السوداني الفخيم الهادي آدم، ولحنها الموسيقار محمد عبد الوهاب، وغنتها سيدة الغناء العربي أم كلثوم، فأطربت العرب من المحيط الى الخليج.. وكذلك هناك فرق في التناول والنقد بين أغاني البنات و«أغاني الرجال». فأيهما أفسد للذوق العام، امرأة ضربتها العنوسة فدعت الى التعدد وغنت «راجل المرة.. حلو حلا» أم ما سنتعرض له من الكلمات التي غناها بعض الرجال؟.. وقبل ذلك أنا اعترف اني لا أحفظ من «راجل المرة.. حلو حلا» إلا هذه الكلمات الأربع.. ومعلوم أن أغاني البنات- وحسب القواعد التي أقرها علم العروض- ليس فيها من الشعر شيء، فهي إما أن تكون كلاماً غير موزون وغير مقفى «كلام ساكت»!! أو سجعاً غير منظوم وفي أحسن الأحوال تكون رجزاً وهو أدنى قوالب الشعر مثالاً.. وهذا ليس هو موضوع المقارنة، ولكن المقارنة التي نود أن نعقدها تكمن في المعاني والمرامي.. وإذا كان الإشكال في عبارة «راجل المرة» وانصرفت الأذهان الى التخوين، فإن من الرجال من أعلن الخيانة جلية، وصرح بها واعتبر ذلك من درر الغناء السوداني كالقبلة السكرى في الوكر المهجور والصمت قد عمَّ!! أما إذا كان الإشكال في عبارة «حلو حلا»، فالحلاوة قد أسرف الرجال في كيلها للنساء: «يا حلوة يا ست البنات»، «يا حلوة العينين يا أنت»، «كنا قبلك يا حليوة..»، «أحلى منك قايلة بلقى..»، «يا جميل يا حلو..»، «يا حلو النغمات والمناهل»، وغيرها كثير.. وكما قال الكاتب خفيف الظل محمد عبد الماجد عن هدف بلة جابر العكسي في شباك المريخ متسائلاً: «كلو في الكشافات اش معنى دي يا بلة؟!» و«كلو حلاوة اش معنى راجل المرة بس»، وما أظلم الرجل يستمتع بالحلاوة اكلاً وغناءً فإذا نطقت الحلاوة وقالت له: «حلو حلا» رد عليها «أنت ساقطة!!» وما أوردناه من أغاني «الحلا» أعلاه لا يندرج في مدارج الهبوط، ولكن الهبوط الذي بدأ منذ أغاني «الحقيبة المقدسة» التي تصف إحداها المعشوقة وليست المحبوبة من شعر رأسها، الى تفاصيل وجهها، الى جيدها، الى صدرها، الى خصرها، الى اردفاها، وهنا تحديداً يقول: «هوي.. هوي» و«هوي.. هوي» في هذا الموضع اعتبرها الذوق العام السوداني في أنسه «أسفل السافلين واسقط الساقطين» في الغناء، ولكني أرى أن هناك ما هو «أسقط وأسفل» من هذا مما مر على لجنة النصوص، ولم يتناوله النقاد حتى انبرى له من شمال الوادي الواعظ المعروف عبد الحميد كشك رحمه الله، فقال ما معناه.. «في جنوبالوادي فنان يقال له كمال ايه مش عارف يغني: البعبدا.. المعبود هو الله يا..» فما كان من الفنان المرهف الشفيف زيدان ابراهيم رحمه الله إلا أن إضاير بشويش وغير الكلمة في أغنيته التي يقول فيها «أو أبقى راهب ليها واعبدا» الى، «أو أبقى راهب ليها واعشقا» مثل زميله ترباس الذي حول «البعبدا» الى «البعشقا»، ولكن زيدان فات عليه أن الراهب لا يجوز له العشق ويحرم عليه الزواج في مذهبية تخالف الفطرة، كما فات عليهما معاً أن العشق لا يندرج تحت لواء الحب العذري، وإنما العشق حب مع شهوة. هذا من المخالفات التي تسربت من بين ايدي لجان النصوص الموقرة، ولكن هناك أسواق أخرى تروج للغناء الساقط، ولا رقيب، فقد سمعت فناناً مغموراً في إحدى القنوات التجارية السودانية يغني أغنية كل بيت فيها يبدأ باسم محبوبته «حنان»، فيقول حنان فعلت وحنان تركت وحنان.. حتى وصل الى قوله: «حنان للدنيا جات صدفة!» والله سبحانه وتعالى يقول: «افحسبتم إنما خلقناكم عبثاً وإنكم الينا لا ترجعون» ومن العجيب أن المذيع الذي أجرى معه الحوار كان طرباً حد الثمالة رغم التناقض الواضح بين الكلمات الوصفية واللحن الحزين. جميل جداً أن تجد شاباً ينتبه لمثل هذه المخالفات في الغناء، فقد نبهني الشاب عامر خليفة من أبناء كوستي أن استمع الى أحد أشرطة الطمبور، وتوقف مستنكراً عند هذا البيت «لو في بشر بركعولو أنا أول زول ليكي بركع»!! وحكى لي حكاية شاعر احب بنت خالته أو قريبته، ولما أراد الزواج منها خابرته والدته بانها أخته من الرضاعة، فانشأ شعراً يُغنى يقول فيه: «يمة انا لو سبت نجوى.. الشمس تجي من مغيبا ويترك الناس دين محمد.. والنصارى تبيع صليبا». لا علينا من صحة الرواية أو عدمها ولكن أنظر الى الاستخفاف بالأديان والمتدينين والعجز عن تصوير الاستحالة، إلا بهذه المعاني السخيفة، وقارن ذلك بتصوير ادريس جماع للاستحالة بقوله: «إنت السماء بدت لنا.. واستعصمت بالبعد عنا». مما جعل العلامة العادل بروفيسور عبد الله الطيب يقول: «هذا تشبيه لم تسبقه اليه العرب» كما سمعت رواية تقول إن الشاعر الكبير نزار قباني قال في احدى محاضراته إو لقاءاته.. «ابيع شعري كله بهذا البيت». وبعد.. ما إكثر السقوط في «إغاني الرجال» بل أن السقوط المدوي للجان النصوص التي تقبض أجورها من أموال هذا الشعب وتبث في أبنائه المفسدات وأخشى أن تكون هذه الغفلة ثغرة تنفذ منها الأخلاق السافلة والأعراف الوضيعة، فتموت القيم بعد فساد الذوق العام.. وماذا لو تم تكوين جسم يقول بمحاسبة تاريخ الجهات المسؤولة عن إجازة مثل هذه النصوص ثم مراقبة السخف الذي تعج به أجهزة الإعلام وشركات الإنتاج الإعلامي التي تضخ الحشف في شرايين الأجيال. وحتى لا اتهم بالانحياز للغناء الفصيح دون العامي فإني أحفظ عشرة الأيام، وصدقيني، والرحيل، ويا جميل يا حلو، وشفت ياما شفت كم، وياما بقيت حيران، ويطربني الطمبور، وتدهشني الحقيبة النقية. وربنا يسمعنا خيراً..