تقضي على الأخضر واليابس هكذا هو دأب النار حينما يضرم أوارها، وفي القضارف تعوّد الناس على سماع صوت صافرات المطافيء خلال فصل الصيف؛ ومع صوتها يتأكد للجميع أن مأساةً أخرى قد بدأت فصولها في أحد أحياء المدينة مترامية الأطراف، أما في الخريف فالغرق يتهدد من يسكنون على ضفاف الأنهار. فلماذا تتكرر المأساة كل عام؟.. وما هي الحلول التي يمكن أن تجنب البسطاء معاناتها؟.. أسئلة يحاول هذا التحقيق الإجابة عنها أو على الأقل وضع المشهد أمام الجميع عسى أن يكون في ذلك بعض الفائدة. قتامة المشهد: تشير الإحصاءات غير الرسمية إلى أن عدد الحرائق خلال الفترة من يناير وحتى أبريل تجاوزت المائتين وخمسين بلاغاً في مدينة القضارف وحدها ،عدا عن حالات مماثلة في المحليات الأخرى والقرى البعيدة، أما ما ترويه أحاديث المنكوبين فهي جزء من مشهد قاتم كان مسرحه حي كرفس أحد أحياء المدينة، فقد شهد النصف الأول من شهر أبريل حريقاً هائلاً أدى لتدمير سبع وثلاثين قطية بكامل ما فيها من أجهزة منزلية وأثاثات. ويروي أحد سكان الحي ما حدث قائلاً «حرقن لي خمسة قطاطي واتنين كرنك ومطبخ والمصيبة كبيرة ودا ابتلاء من الله سبحانه وتعالى ونحن نحمده على ذلك»، ومضى مناشداً المسؤولين لإيجاد معالجات جذرية لمشكلة الحرائق التي اشتهرت بها القضارف. أما سيدة عمر التي مات عنها زوجها وترك لها عيالاً فتقول إن الحريق قد قضى على كل ممتلكاتها، وناشدت المسؤولين الدعم وتوفير قطعة سكنية تأويها وعيالها الصغار. وبينما كنت أصف حروف هذا التحقيق تناهت إلى مسامعي أخبار حريق آخر قضى على سبع عشرة قطية باقشلاق الشرطة ضحى يوم شديد الحرارة، ليرتفع بذلك عدد ضحايا الحرائق وتتواصل رحلة المعاناة. تتعدد الأسباب والحريق واحد: تشابه الحالة وتطابق الأسباب هو السمة الأبرز للحرائق في القضارف، فالمتهم الأول هو الالتماس الكهربائي وبعده النار التي من مستصغر شررها يضرم الحريق، والعامل المساعد هو المواد المحلية التي تبنى منها المنازل، فنمط البناء السائد هو القطاطي التي قوامها الأخشاب والقش، وهي تمثل نسبة تفوق التسعين بالمائة إن كانت في المدينة أو الريف، أما العامل الآخر فهو قرب القطاطي من بعضها، إذ يلاحظ انتشار القطاطي في رقعة صغيرة ما يسهم في سرعة انتقال الحريق بواسطة الرياح ويصعّب من عملية عزلها؛ فتكون النتيجة ارتفاعاً في حجم الدمار والخراب الذي يخلف الحسرة وكثيراً من الرماد. ثم ماذا؟ ليس ذلك فحسب، بل إن شح المياه في المدينة يعد عاملاً آخر يوضع في خانة العوامل المساعدة في إفشال جهود السيطرة على النيران، فحسب شهود العيان فقد أعجزهم عدم توفر المياه عن مكافحة الحريق في بدايته، فالمدينة تعاني من شح المياه في فصل الصيف، ولا ينسى الناس أن يلقوا باللائمة على الدفاع المدني لضعف استجابته حيث لا تكاد صهاريج مياهه تكفي إلا قدراً يسيراً من مهمة السيطرة على النيران التي تبدو مستحيلة، فتكون الخسارة باهظة والحسرة كبيرة على أناس يكابدون لتوفير احتياجات أسرهم، فإذا الأقدار تعبث بهم وتزيد معاناتهم كيل بعير. الدفاع المدني تحديات واحتياجات: مدير الدفاع المدني بولاية القضارف المقدم/ أحمد حميدان يرجع في حديثه لقناة الشروق أسباب ارتفاع معدلات الحرائق إلى ارتفاع درجات الحرارة إلى جانب إهمال المواطنين واستعمال أنواع غير جيدة من الأسلاك ما يتسبب في اشتعالها بسبب التحميل الزائد، كذلك فقد أشار إلى أن بعض الأسر تتساهل في أمر لعب الأطفال بالنار ولا تراعي معايير السلامة عند استخدام أسطوانات الغاز، وحول بطء الاستجابة قال إن حدوث الحرائق غالباً ما يتزامن مع ساعات الذروة المرورية ما يعرقل حركة سيارات الإطفاء. وما لم يقله مدير الدفاع المدني هو أن ضعف استجابة إدارته يعود بالدرجة الأولى إلى عدم توفر عربات الإطفاء الكافية لتغطية المدينة التي لا تفتأ تتسع كل يوم، وهنا يشير المواطن الصادق عرديب إلى ضرورة دعم شرطة الدفاع المدني بآليات وعرباتٍ حديثة حتى تتمكن من أداء دورها بالصورة المطلوبة، لافتاً إلى أهمية توزيع العمل إلى قطاعات أربعة بحيث تتمركز سيارات الإطفاء في مناطق قريبة من الأحياء لترتفع فعالية استجابتها لنداءات الاستغاثة من قبل المواطنين، أما المعالجة الحقيقية حسب مختصين فتكمن في تغيير نمط البناء باستخدام مواد تقلل من فرص نشوب الحريق. ويشير الناس هنا إلى تجربة اجهضت في مهدها، حيث تم قبل سنوات طرح مشروع لبناء مساكن من مخلفات الحشائش الجافة بعد معالجتها كيميائياً، لكنه توقف وهو طرح يتطلب دعم الحكومة لتشجيع القطاع الخاص لاستنباط أنماط بناء قليلة التكلفة وذات مقاومة عالية للحريق. الخريف تحديات أخرى: تبقى شهر وينحسر تحدي الحرائق ليبدأ تحدٍ من نوع آخر، فالجفاف له أزماته وكوارثه وللأمطار آثارها أيضاً، ففصل الخريف يسهم في زيادة وارد الأنهار من المياه كل عام وهي زيادة تؤدي إلى حدوث فيضانات تدمر ما فشلت الحرائق في الوصول إليه، وهذا الأمر يتكرر سنوياً على مجرى نهر الرهد حيث تشير التقديرات إلى وجود حوالي ستين قرية في محليتي الرهد والمفازة يطال تأثير الفيضان أجزاء منها ما يضع مسؤوليات مضاعفة على الأجهزة المختصة وعلى رأسها الدفاع المدني للعمل على تلافي آثارها المدمرة على المواطنين وهو تحدٍ يجعلنا نضم صوتنا للذين يدعون لأهمية دعم الدفاع المدني وتوفير المعينات اللازمة له كي يتسنى له الاضطلاع بمسؤولياته حماية لأرواح وممتلكات المواطنين.