صحيح.. أنا.. لم أنتخب أحداً.. وما بايعت بعد محمد رجلاً.. ولكن الصحيح أيضاً أنني مواطن سوداني.. أذوب وجداً في الوطن.. وأتمسح طهراً في عرق أبناء الوطن.. لي في الوطن مثل ما للأحبة في الإنقاذ.. أحب وطني حباً قد برى جسدي.. وتدعي حبه بقية الأمم.. أخاف عليه من نسمة السحر الناعسة.. أخشى عليه من المغول والتتر.. وارتعد فزعاً على صباياه من كل جنكيز خان. إذن ما العجب وما الدهشة.. عندما أبذل مدادي.. وينزف قلمي.. تبصيراً للإنقاذ بمواطن الضعف والزلل والخلل.. ودعوني أقسم بالشعب والأيام الصعبة.. إن الإنقاذ لو تقبلت نصائحي الموجعة.. وحروفي الدامية.. وصححت ما رأيته خطلاً.. أو خطأ.. أو خطراً.. لصارت أكثر سلامة من صحن الصيني.. واسألوا عننا التاريخ يروي الحق ويرضينا.. ليس التاريخ ذاك الذي دفنته الرمال وطمرته أكوام التراب.. ليس التاريخ ذاك الذي فات قطاره وترك الناس في محطة خلوية تصفر فيها الرياح.. التاريخ الذي أعني هو ذاك الممتد من أول يوم ولدت فيه الإنقاذ وحتى يوم الناس هذا.. كتبنا وقلنا إن التمكين عاصفة هائجة وهائلة.. خلخت أوتار خيمة الوطن الجميل.. والآن الدولة وفي أعلى قممها.. قالت ما قلناه سابقاً.. قالته بنفس الحروف.. بنفس المفردات.. بنفس التعابير.. قلنا إن الصالح العام.. وذاك التشريد المنظم والممنهج.. زلزل أركان الأسر وشتت العوائل وعصف بنسيج البيوت.. فتشرد من تشرد.. وجن من جن.. وسقط.. بل سقطت من سقطت.. وانتحر من انتحر.. ومات كمداً من مات قهراً.. وها هي الدولة تعترف وتقر بذنبها.. وها هي تحاول جبر ذاك الكسر الذي بات عصياً على الطبيب المداويا.. تحدثنا عن الفساد.. وكيف بات الولوغ في المال العام.. يسيراً وعادياً لا يثير دهشة أحد.. وها هي الدولة تنشيء صباح مساء.. لجنة وراء لجنة.. وها هي تقر وتعترف بكل الذي كتبناه.. ولم نلاقي إلا الاذدراء والغضب العاصف.. كتبنا وعبر سلسلة مقالاتنا والتي كانت بعنوان «الحصة دين».. كتبنا نقلاً عن كتب السيرة وسبر أغوار حياة الصحابة أن الذي نعيش تحت ظلاله وراياته ليس هو دين الله الحق.. ولا يمت بصلة قربى أو نسب أو قرابة بشرع الله المطهر.. كتبنا ذلك فانتاشتنا سهام خرقت كل جسدي.. بل سجدت سيوف على قفص صدري.. وتهكم علينا أحد «الإخوان» النافذين.. وقال ساخراً.. حتى الشيوعيين باتوا يحاكموننا بالدين.. والغريبة والعجيبة أن الرجل كان شيوعياً صارماً وماركسياً عتيداً ليس ذلك مهماً.. المهم.. أن الدولة ومن أعلى نقطة وعلى لسان قائد مركبها وربان سفينتها قال على رؤوس الأشهاد وفي ضوء النهار وأمام المايكرفونات وتحت بؤر وهالات الكشافات.. «تاني ما في شريعة مدغمسة».. وهذا اعتراف ضمني بأن الذي كان سائداً ليس شريعة.. لأن الشريعة لا تحتمل إضافة شولة أو حذف نقطة ناهيك عن خلطها ب«دغمسة».. وأيضاً هي اعتراف بصحة الذي كنا نكتب عنه ونقول.. نحن يا أحبة.. كنا نكتب لنحذر من ضحى الغد حتى يستبين ولاة الأمر النصح بمنعرج اللوى.. ليس خوفاً عليهم.. ولا رأفة بهم.. بل كان خوفاً على الوطن.. وشفقة ورأفة بشعبه الطيب العظيم النبيل.. خوفاً على مركب يضمنا كلنا.. بل نحن أكثر ركابه عدداً.. صحيح أن القيادة والإمساك بالدفة وضرب الأمواج بالمجاديف.. كلها بسواعد الإنقاذ ولكن الصحيح أيضاً أن المركب إذا غرق لا قدر الله.. سنكون كلنا من الضحايا.. وسعداء الحظ النسبي هم من المفقودين الذين لو نجوا لن يجدوا وطناً اسمه السودان.