التعديل الوزاري الذي شهدته مصر نهاية الأسبوع الماضي و الذي جاء على خلفية الشكوى و التبرم من قبل الشعب المصري و المعارضة، ولم يستثنِ حتى بعض دوائر حزب الحرية و العدالة الحاكم و أطيافاً من القوى الإسلامية الحليفة للحكم ينطبق عليه قول المثل القديم:لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع».. فالشكوى و التبرم من أداء حكومة رئيس الوزراء هشام قنديل لا تزال قائمة وهناك ما يشبه الإجماع الشعبي و السياسي على أن هذه الحكومة التي تقترب من إكمال عامها الأول لم تنجح في مواجهة أي من القضايا الحيوية التي تهم المصريين بالدرجة الأولي خصوصاً في مجالي الأمن و الإقتصاد ، ناهيك عن الخدمات الضرورية مثل الكهرباء و المياه و النظافة العامة وحتى تنظيم حركة المرور كما أن هذه الحكومة برئيس وزرائها د. هشام قنديل لم يكن المطلوب «تعديلها» بل المطلوب من جانب المعارضة ضمن شروط أخري ، هو " تغييرها " و إستبدال رئيس وزارئها قنديل برئيس وزراء يحقق الإجماع وينهي حالة الانقسام و الاستقطاب بحيث تصبح حكومة تجمع بين التراضي و التوافق السياسي و الكفاءة حتى تتمكن من إنجاز مطلوبات المرحلة الإنتقالية التي لازالت تعيشها مصر، بعد ثورة أطاحت بالنظام القديم وبحيث تكسب ثقة الشعب و القوى السياسية وتطمئن الجميع أن الانتخابات النيابية المقبلة ستكون على درجة كبيرة من النزاهة و الشفافية تمهيداً لتحول ديمقراطي يستعيد الوحدة الوطنية ويعبئ الشعب لمواجهة القضايا الكبرى التي تواجه البلاد. ü الإعلام المصري - غير الحكومي - استقبل وزارة هشام قنديل الثالثة بفيض من الانتقادات و التهجمات، فالقنوات الفضائية و الصحف الخاصة نظمت «حفلة عداء» غير مسبوقة في مواجهة الوزارة المعدلة معبرة بذلك عن حالة المعارضة و الرفض الواسع للحكومة - الجديدة القديمة- ، ووصل الأمر بالبعض لرفع دعاوى أمام القضاء الإداري ضد التعديل الوزاري.. لكن لدوائر الرئاسة و الحكومة رأي آخر يبرر الصورة و الشكل الذي أتى عليه التعديل الوزاري الجديد.. فالدكتور عمرو دراج، وزير التخطيط و التعاون الدولي صرح بأن الرئاسة و الحكومة عرضتا على جميع القوى السياسية تولي حقائب في الوزارة، إلا أنها رفضت «لأسباب خاصة» مؤكداً أن ذلك أفضل «حتي تكون الحكومة متوافقة» وقال في أول مؤتمر صحفي عقب توليه مهام منصبة الجديد ، إنه «يفتخر بانتمائه لجماعة الإخوان المسلمين»، مشيراً إلى أن اختياره كان بتكليف من حزب الحرية و العدالة، لكن الدكتور دراج لم يقل إن أحزاب المعارضة لم تشارك في «التعديل» الوزاري لأنها كانت تطالب ب " التغيير«وليس التعديل ، و إن اعتراضها ينصب في جوهره على رئاسة الحكومة وشخص الدكتور قنديل الذي تحسبه المعارضة بأنه موال «للإخوان» و الحزب الحاكم وليس شخصية توافقية يمكن أن تقود البلاد في هذه المرحلة الحساسة و المفصلية. ü القوى السياسية المعارضة أعربت عن رفضها وعبرت عن قلقها من التشكيل الوزاري الجديد ووجهت اتهامات لبعض الوزراء الجدد، وعلى رأسهم وزير الثقافة علاء عبد العزيز ، وقدم بعض المثقفين مستندات تكشف عن فصل «عبد العزيز» من معهد السينما خمس مرات بسبب عدم التزامه، وطالب نشطاء ومثقفون الرئاسة بالإطلاع علي اتهامات تم توجيهها للوزير، وما تزال معروضة أمام الشؤون القانونية للأكاديمية، كما تعرض اختيار المستشار حاتم بجاتو عضو المحكمة الدستورية العليا و الأمين العام للجنة العليا للانتخابات الرئاسية الأخيرة لهجوم من قوي محسوبة «ثورية وليبرالية» وحتى إسلامية، ومن ذلك ما صدر عن الدكتور يسري حماد نائب رئيس «حزب الوطن» ، وحتى من رئيس الحزب مساعد الرئيس مرسي الدكتور عماد عبد الغفور من أن التعديل الوزاري « صادم» ، وقال حماد إن هناك «لوغاريتم »- أي شيء غير مفهوم - حول اختيار حاتم بجاتو وزيراً للشؤون النيابية و القانونية . وأوضح أنهم قدموا عدة شخصيات من ذوي الكفاءة أومشهود لهم بالنزاهة ولم يكن عليهم أي خلاف أو لغط سياسي، و لكننا فوجئنا بإختيار بجاتو في ذلك المنصب، ولكن ما عبر عنه قادة حزب « الوطن » المنشق عن حزب النور السلفي و المتحالف مع الحزب الحاكم ، تلميحاً عبر عنه بعض قادة التيار المدني و الليبرالي صراحة حيث اعتبروا أن تعيين القاضي بجاتو هو بمثابة «مكافأة متأخرة عن خدمات » قدمها الرجل للإخوان وحزبهم الحرية و العدالة أثناء الانتخابات الرئاسية الأخيرة ساهمت - كما زعموا - في وصول الدكتور مرسي إلى سدة الحكم ، وذلك في العديد من أحاديث « التوك شو » التي تقدمها بعض القنوات الفضائية الخاصة كقناة «دريم 2 و أون تي في». ü وفي حالة تعتبر فريدة في تاريخ تشكيل الحكومات أو التعديلات الوزارية في أي دولة من الدول، أقام محامٍ كبير يدعي محمد حامد سالم أول دعوى قضائية أمام القضاء الإداري بمجلس الدولة ، طالب فيها ببطلان التعديلات الوزارية الجديدة ، واعتبر تعيين القاضي بجاتو يعطل عمل المحكمة الدستورية في «قضية مجلس الشوري» الذي استمر في العمل وجرى تحصينه عبر الدستور الجديد، بالرغم من عوار القانون الذي انتخب على أساسه و الذي قضت المحكمة الدستورية العليا في ما سبق ببطلانه ، وحل بموجب ذلك مجلس الشعب الأخير المنتخب و المعروف أن مجلس الشوري الحالي لم ينتخب ليلعب دوراً تشريعياً ، بل إنتخب بنسبة ضئيلة (7 %) من أصوات الناخبين، لأن الشعب لم يكن متحمساً أثنائها لوجود المجلس دونما دور حقيقي يلعبه في حياة المواطن، لكن الإعلان الدستوري الذي أصدره رئيس الجمهورية في 21 نوفمبر الماضي و الذي حصن بموجبه قرارات الرئيس من الطعن، حصنه من الحل كما حصن الهيئة التأسيسية للدستور، التي قامت بدورها بتضمين الدستور الجديد مادة تحصن مجلس الشوري من أن يطاله الحل من قبل المحكمة الدستورية و أسندت إليه مهام تشريعية لم ينتخب على أساسها، تلك المهام التي قال عنها الرئيس مرسي إنها «ستكون في أضيق الحدود» ، أي تشريعات عاجلة قد تقضيها الضرورة ، لكن المجلس و الحكومة توسعوا في ما بعد ، ولم يقتصر على قانون انتخابات المجلس النيابي ، ولكن تناولت أعماله قوانين ذات ديمومة و آثار ممتدة كقانون السلطة القضائية وقانون الصكوك الإسلامية، ما أشعل أزمات مع دوائر القضاء ومؤسسة الأزهر الشريف، معززة اتهامات المعارضين للرئاسة و الحزب الحاكم و الحكومة بالعمل علي التمكين و «أخونة» مؤسسات الدولة ، بما يعني في نهاية المطاف إنهاء أمل هؤلاء المعارضين في التحول الديمقراطي و التبادل السلمي للسلطة . ü لذلك، لم يكن غريباً أن نطالع هجمات وتصريحات عنيفة من جانب قادة وزعماء جبهة الإنقاذ المعارضة ضد التعديل الحكومي الجديد ويحمل السياسات التي ينتجها الحكم في مناسبة هذا التعديل ، ليكرس بذلك الإنقسام المجتمعي و الإستقطاب السياسي الحاد في البلاد ، بكل ما ينطوي عليه من آثار سلبية علي مصر في جميع الوجوه ، وبخاصة الأمنية و الاقتصادية وفرص عودة الحياة الطبيعية إلى العمل مجدداً، فقد قال د محمد البرادعي - أحد رموز الثورة المصرية في مواجهة نظام حسني مبارك - رئيس حزب الدستور المنسق العام لجبهة الإنقاذ «إن مفوضية حقوق الإنسان- الدولية - أكدت أن النظام فقد صلته بالثورة » و أضاف «تغريدة» على حسابه الشخصي بموقع تويتر إن المفوضية ذكرت أن موقف النظام من الدستور و القضاء و المجتمع المدني يضرب أهداف الثورة في مقتل، معتبراً أنها «شهادة عالمية» بأن السلطة فقدت صلتها بالثورة ، ومن جانبه دعا حمدين صباحي مؤسس «التيار الشعبي»، و أحد مرشحي الرئاسة السابقيين خلال لقاء بالتلفزيون المصري منذ ثلاثة أيام ، دعا المصريين إلي حملة «تمرد» التي أطلقتها حركة كفاية، وجمع ملايين التوقيعات لسحب الثقة من الرئيس مرسي و إسقاطه، على حد قوله ، و إجراء إنتخابات رئاسية مبكرة بحلول الذكري الأولي لتوليه السلطة بحلول يوم 30 يونيو المقبل . ü أما السيد عمرو موسى وزير الخارجية الأسبق و أمين عام الجامعة العربية السابق ورئيس «حزب المؤتمر » في ما بعد الثورة ، فقد صرح خلال زيارته الأخيرة للبنان بقوله : إن عام 2011 شهد ثورات تتابعت حتى شكلت حركة تاريخ خاصة بنا سماها الغربيون «الربيع العربي» وسماها غيرهم ب «الإنتفاضة أو الثورة» وعبر عن أمنيته الشخصية بأن لا تنهي إلى " هوجة " كما يقول الفولكلور المصري ، و أضاف خلال مشاركته في ندوة ببيروت تحت عنوان «الشرق الأوسط في عالم متغير» إن حركة التغيير الثورية ستستمر لسنوات عديدة قادمة ، ولن تتراجع إلي الخلف.. وستكشف ظلام المجتمعات الفاشلة بسبب جمود الفكر وفشل الحكم . وفي الوقت ذاته اعتبر الدكتور سيد البدوي رئيس حزب الوقد إن التعديل الوزاري يأتي استمراراً لسياسة أخونة مؤسسات الدولة وكرسي اختيار أهل الثقة على حساب أهل الخبرة ، وضرب بمطالب المعارضة عرض الحائط»، وقال خلال استقباله سفير فرنسا لدي القاهرة يوم الخميس: إن الجماعة وحزبها خسروا كثيراً من شعبيتهم «مشيراً إلى أن الوضع الإقتصادي الحالي سيء ، وشدد علي ضرورة " المصالحة الوطنية» لتحسين الأوضاع . ü ما قاله د . سيد البدوي حول الوضع الإقتصادي وضرورة المصالحة الوطنية وجد له إصداء موازية ومعززة في تصريحات أدلت بها السفيرة الأمريكية لدي القاهرة آن باترسون خلال حفل توزيع جوائز مسابقة« شهر الأمريكيين الأفارقة » رداً علي سؤال حول إتفاق صندوق النقد الدولي بشأن القرض لمصر البالغ قيمته 4.8 مليار دولار ، والذي تأمل الحكومة أن يكون عربون ثقة أمام المانحين و المستثمرين و الأجانب ، حيث قالت السفيرة باترسون : إن مصر تحتاج إلي القرض لإصلاح الأوضاع الإقتصادية ، و أضافت : إن الأمر لا يتعلق بتطبيق بعض الإصلاحات فقط .. ولكن الأغنياء عليهم المساعدة في توفير ظروف آمنة للفقراء الذين يحتاجون الدعم و أعربت باترسون عن أملها في سرعة التوصل إلي إتفاق بين الحكومة و الصندوق مشيرة إلي أن «الأمر برمته صعب»، و هذا أهم ما في تصريح السفيرة الأمريكية التي تحفظت أيضاً وتبنت عدم التعليق علي الشخصيات الجديدة التي شملها التعديل الوزاري لحكومة الدكتور هشام قنديل معتذرة بأن «هذا شأن مصري لا نتدخل فيه».. أما قولها إن أمر القرض برمته «صعب» فهذا ينطوي على إشارات باطنية لحالة الانقسام السياسي و المجتمعي و الإضطرابات التي تنظم البلاد بشكل مستمر ، و التي أسهمت ضمن عوامل أخري في تردد الصندوق تجاه القرض المذكور ، مثلما ساهمت أيضاً في تراجع وتدهور تصنيف مصر الإئتماني الدولي للمرة الخامسة علي التوالي في الشهور القليلة الماضية ليصبح في الدرجة ( C ) - سي - بعد أن نزل قبلها إلى الدرجة ( B ) بما يضعف حظوظ مصر في الاقتراض و الإستثمار على حد سواء ، فالمعلوم أن التصنيف الإئتماني هو ما يعتمده المقرضون و المستثمرون كمؤشر علي مدي المخاطر التي تتعرض لها أموالهم .. ورأس المال جبان كما يقولون .. ü مصر إذاً ، حكومة ومعارضة ومجتمعاً، في حاجة ملحة لاستقرار حقيقي مدخله مصالحة وطنية ووفاق بين القوي السياسية لمواجهة حجم المخاطر و التحديات التي تتعرض لها البلاد وتحجب عنها فرص النهوض بعد التدهور المريع الذي تعانيه في كل مجالات الحياة وضروبها، وبدون ذلك تبقى كل المؤشرات في هبوط وتراجع إلى أن يأذن الله بأمر كان مفعولاً.