إن الأيام تمضي سراعاً وقد تبقت الآن أربعة أشهر فقط على تقرير مصير الجنوب، وبالتالي تقرير مصير السودان، فاما أن يكون بلداً واحداً متحداً، أو يصبح منفصلاً منقسماً لدولتين، ونتيجة الاستفتاء هي التي تقرر ذلك، ويغدو الجميع بعد ذلك أمام الأمر الواقع الذي لا فكاك منه ولا مناص من القبول به، وعدم النكوص عنه، ولذلك يحتدم التنافس الآن بين الوحدويين والانفصاليين، مع إدراك أن حق تقرير المصير يملكه الجنوبيون وحدهم وليس للشماليين حق الإدلاء بأصواتهم في الاستفتاء، ولذلك فإن التعبئة وسطهم فيها مضيعة للوقت والجهد والمال، وهي كالحرث في البحر، ويبنغي أن ينصب الجهد والعمل والتعبئة وسط الجنوبيين، وتؤكد كثير من المؤشرات أن خيار الانفصال هو الراجح وسطهم بكل أسف، وأعلنت قيادة الحركة الشعبية بأنها رصدت مبلغ خمسة وعشرين مليون دولار لترحيل مليون وخمسمائة ألف مواطن جنوبي للتصويت للانفصال، علماً بأن أعداداً من الجنوبيين قد رجعت للجنوب، ثم عادوا أدراجهم للشمال، إذ لم يطب لهم العيش هناك واستمرأوه هنا، وهم يحبذون العيش في الشمال وقلوبهم مع بني جلدتهم عند المنعرج الفاصل. لقد حضر ملايين من الجنوب للشمال، وبدأ نزوحهم من إعلان حركة التمرد عام 1983م، أي منذ أكثر من ربع قرن، ولازلنا نذكر أنهم كانوا يتجمعون في حلقات كبيرة في الأسواق للاستماع لإذاعة المتمردين، عندما كانت توالي بثها من أثيوبيا، وكانت روحاً عدائية غير ودية، رغم أنهم حضروا في ظروف إضطرارية غير عادية، وآواهم أخوانهم الشماليون وقاسموهم قطعة الخبز وجرعة الماء، وكافة الخدمات، وأتيحت لهم فرص العمل، كل منهم وفق مؤهلاته وقدراته بأجر معلوم، وليس هناك عمل بلا مقابل مادي، أي أنه ليس هناك استغلال، وقد أضحى بعضهم تجاراً ورجال مال وأعمال، ويشهد كل المراقبين في الداخل والخارج أن العبادة مكفولة للجميع بحرية كاملة، والملاحظ أن الكنائس ومنظمات التبشير المسيحي تعمل بنشاط وتغدق بسخاء، والحرية المتاحة والمباحة تكفل أيضاً للمنظمات الإسلامية الإنسانية والإغاثية والدعوية أن تعمل بنشاط وسط الجنوبيين، ولكنها بكل أسف لم تعمل بذات النشاط والهمة التي عمل بها أولئك، وخلاصة القول إن الجنوبيين تمتعوا بكافة حقوقهم الدستورية المقيمين منهم في الشمال أو الجنوب، واحتكموا هناك لما يرتضونه من قوانين وفق عقائدهم وعاداتهم وتقاليدهم، ولم يجدوا هنا أي مضايقات في الشمال، وأن بعض المنظمات المشبوهة لم تثبت حالة اعتداء واحدة فيها على حقوق أي مواطن جنوبي بسبب الدين أوالعقيدة، ولم يقطع جنوبي واحد من خلاف، أو يقام عليه الحد، ولذلك فإن الضجة المفتعلة حول القوانين في العاصمة يثيرها بعض الشماليين والمنظمات الأجنبية، وهم يتخذون الجنوبيين مجرد أدوات ضغط. وإذا ظهرت نتيجة الاستفتاء بعد إجرائه، وكان الخيار هو الوحدة الطوعية، فهذا هو المطلوب، ولكن إذا اختار الجنوبيون بطوعهم واختيارهم الانفصال، فإن أي شمالي في الجنوب يغدو بعد ذلك أجنبياً، وأن أي جنوبي في الشمال يغدو كذلك أجنبياً، ومن ناحية عملية وواقعية، لا يمكن بين غمضة عين وانتباهتها حدوث عودة فورية متبادلة، وتحتاج هذه المسألة لفترة انتقالية، يمكن أن تكون ستة أشهر لترتيب الأوضاع، ونيل حقوق ما بعد الخدمة، وتوفيق الأوضاع، وتصفية الأعمال والشراكات، وتسوية الحقوق، أو أخذ إذن بالإقامة كأي مغترب، أو مهاجر في دولة أخرى.. والمهم هو أن توفيق الأوضاع الجديدة يحتاج لزمن، وكما قال الشيخ العبيد ود بدر ( مويه الزير دايره ليها تدبير). ويتحدث البعض عن جنسية مزدوجة تمنح للجنوبيين المقيمين في الشمال إذا حدث الانفصال، وبالطبع أن الجنسية المزودجة أمر معمول به في كل أنحاء الدنيا، ويوجد سودانيون لهم جنسية سودانية وأخرى بريطانية أو أمريكية أو هولندية أو تابعية سعودية أو الخ... ولكن الأصل أن ينال كل مواطن جنسية وطنه، وأن ينال الأخرى وفق شروط وقوانين الدولة التي تقدم له هذه المنحة، التي تصبح بعد ذلك حقاً مكتسباً، وهي مسألة فردية، ومنحة شخصية، وليس حقاً عاماً مشاعاً يمنح بالجملة. وإن الزمن كفيل بتصفية ما في النفوس من رواسب، وما يحمله العقل الجمعي من صور ذهنية سالبة، وقد تجلت هذه الاسقاطات في رواية طائر الشؤم لمؤلفها الدكتور فرنسيس دينق، والمعروف لاحقاً أن دكتور فرانسيس وهو أستاذ قانون جامعي ودبلوماسي، ووزير سابق وخبير بالأمم المتحدة، قد ساهم مساهمة فعالة وله بصمات في الدراسة التي أعدها مركز الدراسات الاستراتيجية بواشطن، وأن القس دانفورث مندوب الرئيس الأمريكي الأسبق وموفده للسودان قد اعتمد على تلك الدراسة التي كانت أحد مرتكزات مفاوضات نيفاشا، كما يبدو لكثير من المراقبين.. وخلاصة رؤية دكتور فرانسيس أن حل مشكلة جنوب السودان العويصة التي تطاول أمدها، يكمن في قيام دولة واحدة ذات نظامين، ويبدو أن طرفي المفاوضات قد ركزا في تلك المرحلة على الجوانب التكتيكية، التي تمنح حزب المؤتمر الوطني السيطرة على الشمال، وتمنح الحركة الشعبية السيطرة على الجنوب، وركز المسؤلون الجنوبيون في المرحلة الفائتة على الجنوب ويتجلى هذا في حرصهم على أن يكون الجيش الشعبي هو المسيطر في الجنوب، مع إجلاء القوات المسلحة، والإبقاء فقط على القوات المشتركة التي توجد هنا وهناك، وسعوا أن تكون لهم قوانينهم الخاصة، ومصرفهم، ونظامهم المالي.. الخ أي أنهم كانوا يهيئون أنفسهم لقيام دولة منفصلة أو لترسيخ نظام في إطار الدولة الواحدة، إذا لم يتم الانفصال رغم أن اتفاقية نيفاشا جعلت الاستفتاء قاصراً على خيارين فقط، وليس هناك طريق ثالث توفيقي، ويمكن إذا اتفق الطرفان للوصول اليه، لأن اتفاقية نيفاشا ليست كتاباً مقدساً منزلاً من السماء، وقد حنث المراقبون الغربيون الأجانب بعهودهم ووعودهم، ولم ينفذوا ما التزم به المانحون في أوسلو.. والآن فإن الاستراتيجية ينبغي أن تعلو على التكتيكي، ولابد من ضبط النفس وتهدئة الأمور بين الطرفين، لتسير الأمور بسلاسة، فأما وحدة باحسان أو انفصال باحسان دون أي تدخل للشيطان، لأن النار من مستصغر الشرر، وإذا أندلعت الحرب مرة أخرى، فأنها ستكون مدمرة، ولن تكون حرب مشاة، ولن يضحي أحد بنفسه، ليكون وقوداً لحرب مفتوحة مجهولة المصير، وغامضة الأهداف، ولذلك فإنها تصبح حرباً جوية لا حرب مشاة.. ولذلك لابد من ضبط النفس وعدم التهور من أي طرف من الأطراف. وإن الحديث العاطفي عن منح الجنوبيين الجنسية المزدوجة، إذا انفصل الجنوب فهو يعني أن يفعل الإنسان المستحيل بإن يأكل الكيكة ويحتفظ بها في نفس الوقت، وفي هذا تشجيع للجنوبيين المقيمين في الشمال ليصوتوا للانفصال، طالما أن حقهم بعد ذلك مكفول في الإقامة في هذه الدولة أو تلك الدولة بعد إعلان نتيجة الاستفتاء.