تحلّق إلى الأعلى.. تصبح عصفوراً صغيراً.. بل تتمدد وتتحول إلى عملاق ثم تضمحل.. تلامس الغمام تضع يدك على التراب.. تتكسر في داخلك الأشياء مثل الزجاج الرقيق.. فتسمع ذلك الصوت يأمرك أن تشف وترق فتطيع تستجيب للأمر الجميل.. هل حدث كل ذلك ومعه طربت حواسك، رقصت مسام جلدك..«كلبت شعرة جلدك».. إذن فأنت تستمع إلى الصوت الشجي.. لشاب اسمه «الجيلي الصافي» أدمن الحضور «بالحركة وتعابير الوجه.. وإغماض العين».. إذن أنت تستمع إلى إلياذة صوفية.. أبدعها ذلك الملحن العبقري الذي حباه الله بالأسرار وضمنها «سر الموسيقى» ذلكم هو أبونا الشيخ البرعي.. وغيري أحسن مني تعداداً لمآثر الشيخ الثرة لكنني أقول: لست متخصصاً في الموسيقى.. ولكني متخصص في سماع الموسيقى.. بأذن تدربت على حلو الغناء السوداني باختلاف مراحله.. والغناء المصري.. وموسيقى عالمية سيمفونيات بتهوفن وموزارت وبضع صداقات مع صناع موسيقى سودانية من الهش إلى العادي إلى العبقري.. بتلك القدرة على السماع التي أدعيها أقرر بأن الشيخ البرعي ملحن من الطراز الأول. استمع إلى الشجن الملحاح حين يدخل عليك مدخلاً درامياً أخاذاً القوم بتجيك من ناس بلجيك لبنان ومصر ومراكش ديك عذوبة مشوبة بالحزن وشفافية «مُبتلة» بالندى.. ونزوع إلى فضاءات غامضة مبهمة ولكنها ضرورية وآه لو نعرف لماذا؟ لو أهل الموسيقى حولوا ألياذة «القوم بتجيك» إلى موسيقى بحتة فأي مقطوعة رائعة سيحصل عليها العالم.. كيف يستقبلها الذين يحبون الموسيقى ويتنفسونها في أمريكا اللاتينية.. ولبنان وفرنسا وأثيوبيا وكينيا وغيرها وغيرهم.. أو لو غناها أي صوت مقبول مصري.. هندي أمريكي حتى لو مع ترجمة بسيطة للنص.. فإن سحر الموسيقى الفذة سيظهر ويتضح تحت أي لهجة وعبر أي سحنة.. بأية لغة.. إنها لغة الموسيقى التي لا تحتاج لترجمة. مرحلة الذوبان تكمن ذروتها حين يصدح الجيلي بلحن أبونا اللطيف البرعي التاكل حملو عليك ادنيهو قريب في الحضرة يليك شاعرية أبونا الشيخ البرعي لا يتناطح عليها عنزان.. ففي ملحمته «أحسن لمن عاداك ومن يحبك» دليل أكبر على ذلك.. وشاعرية المادح السوداني عموماً معروفة.. ولأولاد الماحي قصائد عظيمة خالدة.. لكن عبقرية التلحين عند الشيخ البرعي تحتاج إلى دراسة عميقة.وما أنشودة «القوم بتجيك» إلا نموذج واحد.. كما أن الألحان الشجية كثيرة وقد بلغت المكان ومن أشهرها المصطفى مني ليك سلام، ذات اللحن الأخاذ. ويحسب لقناة «هارموني» المؤودة بقيادة الفنان «معتصم الجعيلي» أنها أضاءت وبشرت بالمنشد الشاب «الجيلي الصافي».. كما يحسب لقناة ساهور أنها ابتدعت كتابة أبيات المدائح والأناشيد الدينية التي تقدمها بحيث أنها عرفتنا على كلمات أنشودة «القوم بتجيك». من الدلائل المهمة على عذوبة الأنشودة الدينية «القوم بتجيك» وربنا يستر عليها من الفنان «محمد منير» حتى لا يقتنصها ويروج لها فيطغى على نجمنا الشاب «الجيلي الصافي». أقول من الدلائل إنني عندما أشاهد التلفزيون بمفردي وتبث «المدحة» أقوم بتعلية الصوت فيجيء على عجل كل ناس البيت ومعهم «القطط».. ففي بيتنا بحمد الله حتى الآن سبعة قطط.. كل قطة بسبع أرواح.. حتى القطط تجيء جارية لتستمع إلى هذه «المدحة العذبة». إن أجمل أغنية أو مدحة أو أنشودة دينية.. بل قل أجمل عمل موسيقي نستمع إليه مؤخراً.. هو «القوم بتجيك».. الجيلي الصافي الله يديك العافية ويحفظ لينا حنجرتك الفنية.