في خضم هذا الكم الهائل من الصحف والإصدارات و(المكاتب) المنتشرة هنا وهناك، تلتقي عيون القراء.. كل صباح.. بعشرات من (الأعمدة) والمقالات.. والقوالات، فتستوقف المرء بضع محطات تنشأ بينه وبين كتابها علاقة ودودة، ترتوي أواصرها من ينابيع الحروف والكلمات..وتتشرب وشائجها برونق التعابير والمعاني. في عموده المقروء(الملتهب) تندلع.. من - وقت لآخر- معارك قلمية محتدمة وضاربة.. لكنها راقية، لا تنحدر إلى سفاسف الأمور ولا صغائرها ، ولا تتسربل بساقط القول أو بذئ الكلام. ومع أنه يحمل شحنات متعاظمة من الخلافات مع(الإنقاذ) وأهلها وذويها ومناصريها إلا أنه يلتزم - على الدوام- بأدب الإختلاف، ويتقيد دوماً بضوابط الجدال، في تصالح مع النفس وتسامح مع الآخرين. ولأنه مسكون بحب (الغبش) فهو يلتقط قضاياه التي يكتب عنها من عرض الشارع.. فتأتي كلماته مغموسة بعرق ا لكادحين، وتجيء حروفه مبتلة بدموع الموجوعين.. ولأن أم درمان هي مسقط رأسه ومراتع طفولته ومسارح شبابه، فهو يحبها ويعشقها.. ويضعها في دقات العيون وفي دواخل الوجدان، مفتوناً بماضيها، ومهزوماً بحاضرها، معتزاً بأهلها وترابها وتراثها الوطني العريق. كنت أقرأ له (من بعيد) فلما رأيته-عياناً بياناً- لم أفاجأ بأن وجدته إنساناً.. (عادياً) يأكل الطعام ويمشي في الأسواق وتستغرقك بساطته المتناهية، وهو يلتقيك بتلقائية فطرية تعطيك الإحساس الشفيف بروح (إبن البلد).. بجلابيته «الشعبية» وبعمامته الناصعة، وبملامحه السمراء.. ولعله يترسّم.. في مظهره وحياته.. ذلك الألق المبعثر بين كلمات إسماعيل حسن في رائعته التي شدا بها كروان النوبه، في إبداع مدهش تتشكل به لوحة زاهية تلوح في قلبها (أمة السودان)، تغنَّى معهما - إسماعيل و الإمبراطور- (بلدي يا حبوب). ينتقي صديقنا (الغالي) كلماته من أتون بوتقة تغلي، ينصهر في أحشائها أنبل ما يعتمل في النفس البشرية من إحساس دافق بالإنتماء إلى الأرض، والإرتباط بالجذور، والتشبث بالأصول.. وتنطلق من (فوهة) قلمه حروف (رصاصية) تصف أحوال«الأغلبية الحزينة» الذِّين يعيشون في قاع المدينة .. يغالبون تحديات المعايش، ويخوضون (حروبات الحصول على الضروريات)، ويكابسون ويلات المواصلات آناء الليل وأطراف النهار.. يلهثون من(موقف) لآخر.. بين (كركر و الإستاد) ومن (جاكسون إلى شروني). تحت رايات (شمس المشارق) تنطلق زفرات وطنية ساخنة، يبثها صديقنا الأستاذ مؤمن الغالي، بقلمه (المشاغب)، وبآرائه الجريئة، وبذوبانه في حب السودان، وتعاطفه مع أبنائه البؤساء الفقراء المسحوقين.. أولئك الذين لا يعرفون (المدارس الخاصة)، ولا يتعاملون مع المستوصفات (الفندقية).. ولا يملكون فارهات العربات، ولا يقوون على شراء ما يشتهون.. يتمَّلكهم الفقر المدقع، وتحيط بهم الفاقة (المزمنة)، ويعتصرهم الفلس المستديم.. وتنهال عليهم الضغوط.. حتى(ينبجس) منهم الزيت!!. جمهور(مؤمن) وأحباؤه و (زبائنه) هم أولئك الممكونون الصابرون، القابضون على جمر إنتظار المجهول.. كأنهم يترقبون معجزة غامضة، يتوقون إلى حدوثها لتنشلهم من وهدة الحاجة ومستنقعات الإحتجاج.. ويهيمون على جيوبهم - بدلاً عن وجوههم- فيملأون الشوارع والحارات، والأزقة والساحات.. و(جمهوريات- ستات الشاي).. يتآنسُّون في السِّياسة، و(الكورة).. وحقوق الإنسان.