لأمر ما اضطررت أن أبقى لمدة شهرين في ركن معين في قلب السوق العربي. في ذلك (المربوع) الذي لا تتجاوز مساحته الألف متر.. اجتمعت كل صور البؤس التي تعربد في قاع المجتمع السوداني المعاصر!! في الحلقة السابقة أخذنا عينة واحدة للفحص، وهي عينة جموع العاطلين عن العمل ومجالس ستات الشاي العشوائية.مررنا عليهم وقلنا إن اتساع دائرة العطالة روجت لقهاوي النساء في الهواء الطلق. في هذه المجالس تساءلنا كم هي الطاقات المهدرة في (ضل الضحى) ؟؟ومن هو المسؤول،وما هو المآل؟؟ وهل هؤلاء مجرد كسالى يبحثون عن نوع من خَدَر الهروب ؟ أم أن مواعين العمل ضاقت عليهم؟ ومن المفارقات هناك أن صاحب العمارة متخم مالياً، ترك محلاته فارغة وآخر يجلس في ظل الدكان يبحث عن (حق الفطور)! ومع هؤلاء انضمت مجموعة جديدة من عاطلي الدول الأجنبية كالصوماليين والاثيوبيين والآسيويين هم وحدهم من يعمل.. هذه الأجواء روجت تجارة الشاي، ووسعت من دائرة تجارة المكوس الحكومية تحت مسمى(النظام العام)، وهناك اتسعت ظاهرة الكشات وتنوعت بين (الدفار الكعب والدَّفار الكويس). بلغ الحال الآن مرحلة أن ستات الشاي أصبحن مراكز قوة؛ حتى أن صاحب الدكان هو الضحية الأولى: إذا قاوم وجودها أمام الدكان تحرك أبناؤها الذين يعملون في الشرطة ضده!!! واذا تعاطف معها بحمايتها من الكشة يدخل (الحراسة) من قبل «النظام العام» بتهمة اعتراض موظف عام. أما أكثر الظواهر إزعاجاً وسط هذه المجالس المدخنون وأطفال الورنيش والوناسيين (أصحاب الأحادث الهامسة). هؤلاء وقفنا عندهم طويلاً ومهما كان مصدر الإزعاج لديهم فهم أخف وطأة على النفس من بؤس مستهلكي القمامة!! لهذا نعتبر ما نقدم نوعاً من البؤس «المهضوم». أما البؤس الكثيف فأمره عجيب!! في السوق العربي مناطق قمامات يرتع فيها الشماسة معروفة للجميع. أقرب قمامة من هذا المكان تلك التي تقع في شارع عبد المنعم. هذه القمامة تُمْلئ صباحاً حتى تفيض على الأجانب، ولكن قبل ظهور عربة القمامة عند العصر تكون قد أُفْرِّغت. ويا للهول الإنسان هو المستهلك للقمامة، وهذه ظاهرة لم تكن موجودة قبل سنوات قليلة. لاحظت ثلاثة أنواع من المستهلكين.. أطفال صغار يتجولون وعلى ظهورهم «شوالات» بلاستيكية لا أدري أين يذهبون بها لعلهم يبيعونها لرصفائهم. وهناك شماسة كبار السن بينهم معتوه يهز رأسه بطريقة هيستيرية!! يقفون على القمامة، ويتناولون وجبة كاملة من بقايا المطاعم. وقدرأيت أحدهم يشرب بقايا المياه الغازية عقب الوجبة! وهناك رجال كبار السن بجلباب أبيض وعمامة متسخة يملؤون أكياساً يحملونها ولا أدري إن كانوا يطعمون بها الأُسر أم يحملون بقايا القمامة للدواجن. وعندما تأتي (عربة الوساخة)ينزل بعض العمال بأكياس بلاستيكية، ثم يخوضون في محتويات القمامة دون كمامات أو جوينتيات أو أي ملابس واقية. يبحثون شيئاً معيناً عرفت فيما بعد أنهم يبحثون عن القوارير البلاستيكية الفارغة، وبلاستيك التجليد، ليبيعونها لأفراد لإعادة تعبئتها!! وربما في هذا العمل شيء من تجارة تدوير القمامة ولكن... أثناء البحث يبعثرون محتويات القمامة على الأرض وسائق العربة ينتظرهم بصبر عجيب ثم يفرغون ما تبقى في صندوق العربة ويذهبون وقد انتشرت بقايا القمامة على جانبي الطريق!! الخلاصة: صور البؤس هذه غيض من فيض وهي نتائج طبيعية لأمرين هامين: ظواهر أفرزتها اتساع مظلة الفقر. لم تزدهر هذه الأسواق إلا باتساع أزمة العطالة، وهي في مآلاتها النهائية شاهدة على صحة التصنيف العالمي للعاصمة في الخرطوم باعتبارها أقبح ثالث عاصمة في العالم. ومما زاد من ترسيخ هذه الصورة فشل المعالجات الحكومية بسبب الضعف الفني في الإداريين الذين يتولون إدارة شؤون الخرطوم.. ولو أخذنا فقط عينة من هذا الفشل يكفي أن ننظر في قضية المواصلات: يدمرون المواقف القديمة بقرارات هوجاء ثم يفشلون في بناء الجديد !!!! ووضع تعريفة واقعية للمواصلات وحتى تنظيم المرور. القرارات تتخذ في غياب رقابة شعبية؛ لهذا لا يتورعون في دفع الناس من موقع لآخر دون إهتمام لردود الفعل. ينتشر الجماهير هنا وهناك كقطيع من النمل فقد مساره. وقصة موقف شروني الجديد تعطيك دليلاً صارخاً لهذا التخبط. لو وقف أحدهم على قمة كبري الحرية، وألقى بناظريه على الجماهير وهي منتشرة بين خرابات السكة حديد سيدرك إلى أي مدى بلغ هذا التخبط، بل أصبح الصمت على معانات الناس وعدم الإهتمام بهم في مواقف المواصلات خللاً أخلاقياً! أما الأمر الثاني فهوغياب الثقافة الدينية الصحيحة لدى حكومات رفعت شعار تطبيق الشريعة الإسلامية.. كان من السهل إراقة الخمور، وقفل البارات، وإغلاق أماكن للقهاوي. ولكن اقتصار المعالجات على الجانب القانوني العقابي. اعادت الظاهرة أقوى من ذي قبل؛ هذه النشاطات لم تتوقف وربما اجتمعت في مكان واحد. ولو أخذنا مثلاً ظاهرة القهاوي: يمكن القول أن عدد القهاوي التي أغلقتها قوانين نميري(الإسلامية) لم تكن تجاوز قهوتين أو ثلاثة في الخرطوم كلها!! ولكن تعالوا نقرأ الآن عدد مجالس الشاي في المربع الواحد، ولا نقل السوق العربي كله.. أكثر من عشرين (قهوة) كل ست شاي (عشرة كراسي)!! المصيبة الكبرى أن هذه الظواهر أصبحت الآن جزءًا من ثقافة الانسان حتى ولو توفرت البيئة التحتية للعاصمة ستجد أن الانسان هو أول من يدمرها. وهذا الأمرملاحظ في مجاري الأمطار. كلما فعلت السلطات شيئاً ولو يسيرًا في إصلاحها تجد المواطن يردمها بالنفايات. قررت مرةً أن أحاورأحد زبائن هذه القمامة!! ووجدت امرأة منهمكة في جمع بقايا طعام من بطن القمامة.. سألتها وأنا أقترب منها بحذر شديد: ü انتي ما خايفة من المرض؟ ü المرض «يجي في النوم». لم استطع أن أفهم قصدها ولم أشأ أن استفسر المزيد ربما كانت مشوشة الوعي بمخدرات النفط..(بنزين سلسيون). طيب إنتي ما بتخافي من الحكومة؟!! قالت متهكمة: حكومة.؟ (ثم صمتت برهة) وكأنها تريد أن تقول لي ما شأن الحكومة إن أكلنا من القمامة.. أو شربنا من المجاري.. أثناء الصمت كانت تحرك أصابعها بين بقايا الطعام الملوث بطريقة حذقة. ابتلعت لقمة دسمة من بقايا وجبة سمكية.. بعد أن دست رأس السمكة في الكيس.. ثم التفتت إلىَّ وقالت بطريقة حاسمة(حكومة ما بتدي أكل). أفحمتني بمنطق لا يرد، ثم واصلت إلتهامها لطعام تلك المائدة الملوثة دون أن تلوي على شيء، فانسحبت وأنا أضحك على نفسي!!