كما هو معلوم بالضرورة، فالمفترض -ما لم يجد جديد- أن تنتهي ولاية المؤسسات التشريعية القومية والولائية، وكذلك المواقع السيادية، رئاسة الجمهورية، والولاة، بعد قرابة العام والنصف من الآن، بحيث تجري انتخابات جديدة رئاسية وبرلمانية، في العام 2015، وعندئذٍ تكون هذه المواقع والمؤسسات قد أكملت دورتها العاديّة البالغة خمس سنوات، والمنصوص عليها في الدستور والقانون. ü آخر انتخابات قومية شاملة، على الأصعدة كافة، أجريت في أبريل 2010، وبكل المقاييس فقد كانت تلك الانتخابات نقطة تحول كبرى وحدثاً سياسياً لافتاً، أفرز حراكاً سياسياً، وتفاعلاً في الداخل والخارج، وجذب اهتماماً لم تعهده انتخابات سودانية من قبل، باستثناء انتخابات البرلمان الأول في فترة الحكم الذاتي، التي عقدت في نوفمبر 1953، تحت اشراف دولي ومتابعة لصيقة من قبل دولتي الحكم الثنائي بريطانيا ومصر. ü انتخابات أبريل 2010 جرت تحت، وفي ظل ظروف بالغة الحساسية والتعقيد، كما تميزت بسمات وخصائص ومعطيات تختلف كثيراً عن سابقاتها. ü فمن ناحية فالانتخابات المذكورة، كانت احدى استحقاقات اتفاقية السلام الشامل، في إطار التحرك الديموقراطي والحكم الرشيد، الذي شكل مع السلام والعدالة الاجتماعية والتنمية الركائز الجوهرية لتلك الاتفاقية. ü وتميّزت هذه الانتخابات أيضاً، بأنها أول انتخابات تتم منذ عقود طويلة على مستوى القطر كله، بما فيه الجنوب، إذ كان التمرد المسلح في ذلك الجزء من البلاد، عقبة أمام المشاركة الانتخابية الكاملة للجنوب، منذ منتصف ستينيات القرن الماضي، عندما قويت شوكة حركة أنانيا (1) تحت قيادة اللواء جوزيف لاقو واستمر الحال كذلك بعيد انهيار اتفاقية أديس أبابا في خريف 1983. ü ورغم التوترات التي صاحبت الانتخابات إلا أنها جرت في أجواء انفراج سياسي نسبي، إذ سبقها توقيع العديد من اتفاقيات السلام مع القوى المعارضة والكيانات الجهوية، وتوقفت عمليات قتل السودانيين لبعضهم البعض في كل الأراضي السودانية، وهو حدث يتم للمرة الأولى منذ صباح 18 أغسطس 1955 المشؤوم في توريت، الذي دشن النزاع المسلّح في البلاد، وما زلنا حتى هذه اللحظة نعاني شعباً ووطناً من عقابيله الوبيلة وثماره المرّة. ü ومن إيجابيات مناخ الانفراج السياسي، إقبال الأحزاب السياسية المعارضة على التسجيل والانخراط في عملية التداول السلمي للسلطة والقبول بعد طول ممانعة، بقانون ينظّم ويضبط النشاط الحزبي والحراك السياسي. ü كما أن من خصوصيات انتخابات أبريل 2010 أنها جذبت اهتماماً دوليّاً وإقليمياً غير مسبوق، تمثّل في الكم الهائل من المراقبين والإعلاميين الذين غطوا الانتخابات وتابعوها، نيابةً إما عن منظمات عالمية كالأمم المتحدة، أو إقليمية كالاتحاد الأوروبي، وجامعة الدول العربية، والاتحاد الأفريقي والمؤتمر الإسلامي، أو تمثيلاً لمراكز متخصصة في حقوق الانسان والديموقراطية وسيادة حكم القانون من أوربا والولايات المتحدة. ü ورغم أن تدابير الاتفاق على قانون الانتخابات وعلى أعضاء المفوضية القومية للانتخابات، قد مرت بمخاض عسير وصاحبتها توترات حادّة وشدّ وجذب ومماحكات ومناورات، إلا أنه أمكن وفي نهاية المطاف، التراضي على قانون 2008 وعلى التشكيلة الحالية للمفوضية. ü وبكل المقاييس فإن تطبيق القانون على الواقع، لم يكن نزهة ممتعة أو رحلة ترفيهية شيقة، لكنه كان مراناً ديموقراطياً شائكاً وامتحاناً سياسياً وقانونياً قاسياً، اكتنفته الصعاب وحاصرته العقبات، وكانت المراحل الانتخابية المتلاحقة «الإحصاء، التسجيل، تقسيم الدوائر، التعبئة الإعلامية، اختيار الكوادر، الترشيح، الحملات الانتخابية، الإعلام، الاقتراع ، التأمين، الرقابة، الفرز، الطعون، النتائج، التمويل والتقويم» كل هذه الحلقات المتسلسلة كانت بمثابة حقول ألغام، ما إن تجتاز إحداها حتى تواجهك الأخرى. ü ومما زاد من صعوبة الأمر، إعمال نظام انتخابي رغم إيجابياته، إلاّ أنه كان جديداً وغير معروف أو مجرب من قبل، استحدث ولأول مرة نظام القوائم والتمثيل النسبي، أضف لذلك أن العملية الانتخابية نفسها كانت مركبة ومعقدة، إذ كان على الناخب في الشمال مثلاً، أن يصوت عبر ثماني بطاقات، يصوت لرئاسة الجمهورية، وللوالي، ويصوت للبرلمان القومي، وللبرلمان الولائي، ولكل واحد من البرلمانين، ثلاث بطاقات، الأولى للدائرة الجغرافية، والثانية للمرأة، والثالثة للقائمة الحزبية النسبية، وأن يتم ذلك متزامناً في ذات الزمان وفي نفس المكان، وفي المدن والأرياف، وبين الحضر والرحّل، وفي ظروف اقتصادية ومعيشية ضاغطة، وعلى خلفية نسبة أمية أبجدية عالية، وقبل هذا كلّه بعد غياب طويل عن الممارسة الانتخابية الصحيحة. ü رغم هذه الصعاب مجتمعةً أثبت الشعب السوداني أنه شعب واع وقادر على استيعاب النظام الجديد. ü لا أريد أن أخوض في الجدل الكثيف الذي أعقب اعلان نتائج تلك الانتخابات أو التقديرات المتباينة لحظوظها من النجاح أو الإخفاق، لكنّي رأيت أن أبدأ، من منطلق تخصّصي كقانوني، هذه السلسلة من الحلقات لإلقاء الضوء على الثغرات التي كشفتها الممارسة في قانون الانتخابات القومية لسنة 2008 توطئةً لأية عملية مراجعة إو اصلاح للقانون مستقبلاً. والله من وراء القصد..