اهتم جداً بما يجري في دولة جنوب السودان، أكثر من اهتمامي بما يجري في أيٍ من دول الجوار، وسبب ذلك الاهتمام الزائد يعود إلى الأثر المباشر - سياسياً واجتماعياً واقتصادياً - على بلادنا، إذ أن أجيال السودانيين منذ عهد استقلال السودان الكبير في العام 1956م وحتى انفصال أو استقلال (السودان الجديد) عام 2010م هي أجيال ارتسمت في أذهانها خريطة الوطن الواحد الذي كان يعد أكبر قطر أفريقي تتجاوز مساحته المليون ميل مربع. هذا الاهتمام يجعلني أتابع ما يجري بدقة وأحاول الحصول على المعلومات أولاً بأول مع التعرف على التحليل الموضوعي للأحداث في الجانب الآخر من السودان الكبير. بالأمس اطلعت على مقال للكاتب الصحفي (دينقديت أيوك) نشرته صحيفة (المصير) التي تصدر في «جوبا»، رأيت أن أشرك معي القاريء الكريم في قراءته لأنه يتضمن رؤية من داخل دولة جنوب السودان للصراع السياسي هناك، وقد جاء المقال يحمل اسم (استفحال الصراع السياسي)، وهو ما أخذني للمتابعة والاطلاع. - استحفال الصراع السياسي - ü دينقديت أيوك بعد القرارات الرئاسية الأخيرة التي قذفت بالدكتور رياك مشار تينج من منصبه كنائب لرئيس الجمهورية والوزراء ونوابهم إلى خارج سور الحكم بغية تشكيل حكومة جديدة، وإحالة أحد مراكز القوة في الحزب الحاكم باقان أموم أوكيج إلى التحقيق، تدخل البلاد إلى مرحلة صراع سياسي حول السلطة بصورة أكثر جدية، لأن قرارات رئيس الجمهورية جاءت بعد صراع سياسي سلطوي طويل مع نائبه. وتعود بدايات الخلاف والصراع بين الرئيس ونائبه إلى خلافات الدستور بعد أن صوّت الشعب في استفتاء تقرير المصير بنجاح في يناير 2011م. وأبدى حينها الدكتور مشار اعتراضه على السلطات الواسعة التي أعطيت للرئيس سلفا كير في الدستور وكان ذلك قبل إجازته، وأُجيز الدستور بأغلبية حزبية في البرلمان من قبل أعضاء الحزب الحاكم. ودار الصراع حتى وصل إلى مرحلة اتهام الرئيس لنائبه بأنه يقود حكومة داخل الحكومة، فاتضح للجميع حينها بأن الرئيس ونائبه غير منسجمين سياسياً. وكان الرئيس كير قد اختار مشار في الانتخابات العامة التي جرت في إبريل عام 2010 نائباً له، وطاف البلاد مع مشار وكان في كل محطة يتوقف فيها ليشرح للمواطنين برنامجه الانتخابي، كان يقول للمواطنين في نهاية خطابه بأن مشار سيكون نائبه حال فوزه في الانتخابات ضد الدكتور لام أكول أجاوين رئيس الحركة الشعبية- التغيير الديمقراطي- الذي كان خصماً سياسياً ومنافساً تحداه في الماراثون السياسي إلى قصر رئاسة حكومة جنوب السودان (جي ون). بلغ الصراع ذروته عندما أعلن مشار عن رغبته للترشح لرئاسة الجمهورية في الانتخابات العامة القادمة، وبدأ ظاهرياً مناورات انتخابية مبكرة عبر المنابر العامة، فأصدر الرئيس قراراً رئاسياً قضى بسحب بعض صلاحياته التي أعطاها لمشار في الفترة الانتقالية التي مدتها ست سنوات في ظل دستور مختلف (دستور الحكومة الإقليمية)، وتم سحبها في ظل دستور مختلف أيضاً هو دستور انتقالي بعد أن أصبحنا جمهورية مستقلة. وهو أمر لم تصدقه عقول الكثيرين حينها، إذ أن الرئيس أعطى جزءاً من صلاحياته لنائبه في ظل دستور إقليمي وسحبها في ظل دستور جمهوري. وفي نهاية المطاف، فهمنا الأمر بأنه نزع للثقة عن نائب الرئيس من قبل الرئيس بحكم الصراع القائم بينهما، وكانت المصالحة الوطنية إحدى محطات صراعهما. كير ومشار قياديان ينتميان لنفس الحزب الحاكم -الحركة الشعبية - ويقودان الدولة، لكن لكل منهما نظرة مختلفة عن الآخر في الكيفية التي ينبغي إدارة البلاد أو بالأحرى من يديرها. واتسعت هوة عدم الثقة والصراع بينهما مؤخراً حتى أن الأخير لم يكن يعلم ما يفعله الأول إلا عبر دوائر معينة، والدليل على ذلك أن مشار سمع عن إقالة تعبان دينق قاي وقرار إعفائه كذلك عبر التلفزيون القومي. هذا دليل كبير على أن كير ومشار ظلا غير منسجمين سياسياً وغير متعاونين في القصر الرئاسي طوال الفترة الماضية. وكانت تصريحات الأخير لصحيفة القارديان البريطانية واضحة، إذ حملت في طياتها شعار التغيير طارحاً نفسه بديلاً للرئاسة. ويُعَدُّ الصراع بين الرجلين صراعاً مزدوجاً على مستوى رئاسة الدولة ورئاسة الحزب وفق ما تم تداوله في الأيام الأخيرة. لكن مشار أخطأ لأنه شخصن الفشل الحكومي في شخصية الرئيس وهو لايزال عضواً نافذاً في نفس الحكومة. ولو كان قدم استقالته بسبب الفشل ليتحدث بعد ذلك عن الفشل الحكومي خارج أسوار الحكومة بإرادته، لكان الأمر مختلفاً، لأن وجوده داخل الحكومة ونقده لها يجعله معارضاً في حين أنه نائب الرئيس. من ناحية أُخرى، الرئيس سلفا كير دكتاتور في نظر خصومه السياسيين من حزبه نظراً لتعدد مناصبه: القائد العام للجيش والقائد الأعلى لجميع القوات النظامية ورئيس الجمهورية تحت سلطات دستورية واسعة منها إقالة نائب الرئيس مباشرة دون مصادقة البرلمان على القرار أو دون ذلك في المادة (105) من الدستور الانتقالي الحالي. وإن كان سلفا كير دكتاتوراً ويمارس «حكم الرجل الواحد» كما يقول رفاقه في الحركة الشعبية، فإنهم مَن نصبوه دكتاتوراً، لأن أعضاء الحركة الشعبية صوّتوا له في البرلمان وبأغلبية كبيرة بأن يُمارس سلطاته الدستورية الواسعة على مستوى واسع حزبياً. الحقيقة الماثلة أمام الجميع الآن هي أن الصراع السياسي قذف بمشار إلى خارج الحكومة ولا أحد يعلم عودته، ودفع بباقان أموم إلى التوقيف عن ممارسة نشاطه كأمين عام للحزب وأحاله إلى التحقيق في مواجهة تهم خطيرة بالنسبة لمن تمعن فيها. المؤشرات الآن تقول بأن الصراع السياسي سيستفحل أكثر من ذي قبل. هناك سيناريوهات متوقع حدوثها في المرحلة المقبلة، وهي سيناريوهات الانشقاقات داخل الحزب الحاكم لأكثر من حزبين. وقد رحب بذلك زعيم الأغلبية الحزبية في البرلمان القومي أتيم قرنق في تصريحاته أمس لصحيفة الشرق الأوسط اللندنية، إذ قال قرنق بأن كير تغدى بمجموعة مشار وباقان وربيكا قرنق، وهذا إقرار علني منه بوجود تكتلات داخل الحزب أو ظاهرة «تحزب داخل الحزب» وهو ما قلناه من قبل، ونتج عنه الآن تصفية حسابات سياسية واضحة من شأنها أن تزيد الصراع السياسي استفحالاً وتجعل رفاق الأمس خصوم اليوم. سيكون رد فعل الخصوم الذين تمت إحالتهم للتحقيق والذين بقوا في السلطة هو قيادة تحالفات وتكتيك سياسي لكسب الرهان في 2015. ما نرجوه هو أن يدير أطراف الصراع هذا الاصطراع السياسي سياسياً وباستخدام أدوات وآليات سياسية بعيداً عن استخدام سلاحي القبلية والسلاح الناري. وأنا متفائل بما تم تداوله في مواقع التواصل الاجتماعي، حيث قيل بأن مشار ناشد أنصاره بالهدوء. ما يعقد الأمور كثيراً أحياناً أن السياسيين يغيرون ألوانهم كالحرباء. نقول لكل أطراف الصراع السياسي الراهن: نحن نريد وطناً آمناً ومستقراً، لأن مصلحتنا جميعاً بغض النظر عن ألواننا السياسية تكمن في السلام والأمان والاستقرار.