أعلنت حكومة ولاية الخرطوم في آخر احصاء لها أن هناك 28.400 منزل قد انهار انهيارا ً كلياً وأن 40.480 آخر قد انهار انهياراً جزئياً من جراء السيول والأمطار التي ضربت أحياء كثيرة في شهر اغسطس من العام 2013م.. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعين أهالي وأصحاب هذه المنازل على تحمل المصيبة التي هبطت عليهم من السماء وزحفت عليهم من كل جانب. وصاحب انهيار هذه المنازل انهيار نفسيات وطموحات كثيرة من هذه الأسر، وأعلنت ولاية الخرطوم عن تأجيل الدراسة بهذه المناسبة التي حدثت (فجأة) وفوق طاقتها وتشكيل غرفة مركزية وغرف منبثقة منها ولجان فرعية تمخضت عن اجتماعات هذه الغرف المكندشة والمكنكشة . وجاءت الولاية بكوكبة من الخبراء السويديين للمساعدة في حل هذه المعضلة السودانية ووضع الحلول النهائية، ولم تظهر بعد رؤيتهم العلمية والعملية على واقع الأرض .واستشعر أهلنا الطيبون مسلمون وغيرهم وأمطرونا بطائرات الإغاثة نقداً وعيناً ودعاءاً وبركة، وتعلن وسائل الإعلام عن وصول طائرات محملة بخيم مكندشة لمناطق تتعامل مع الترطيبات والهنبريب الطبيعي، وتعلن وتتناقل وسائل الإعلام عن فساد في توزيع الإغاثة وتسريبها لغير المستحقين، مع وجود اللجان والغرف المنبثقة.. كثرة الغرف واللجان كادت أن تحول المشكلة المائية الى مشكلة إدارية وتظهر إمراة بوسائل الإعلام وتتحدث باستغراب والله ماجاتنا حاجة من الإغاثة، ويظهر رجل آخر في نفس الإعلام ليشكر الدولة الماقصرت ووفرت معظم الاحتياجات.. وتتباين الحكاوي وقصص ألف باعوضة وباعوضة.. ويزحف الليل فيسكت الكلام المباح إلا من طنين انثى (الانوفليس) وزوجها.و(نقيق) الضفادع. من المؤكد أن منزل الحاج عوض الله ليس من هذه المنازل لعدة أسباب من أهمها أن هذا المنزل لا يقع في مجرى السيول، ويبعد كثيراً عن مرابيع الشريف والكريباب، ومناطق النكبة . ومن الأسباب أيضا ً أن المنزل قد انهار بعد الطرح والجمع والقسمة والضرب الناتجة من الإحصاء الولائي والبيان الرسمى لمؤتمر السيد الوالي حفظه ورعاه. علاقتي بهذا المنزل سادتي الكرام تمتد من أيام الدراسة الثانوية، حيث كنا نشاهده من خلال عبورنا بالبص في الغداة والرواح لأنه ملفت للنظر من حيث جمهرة الشباب المتواجدين حول شجرة النيم الكبيرة المزروعة أمامه وحجم الأزيار المثبتة على الحامل الحديدي كل زير فيه بحجم نصف برميل تتم تعبئتها يومياً وبابه مفتوح على مصاريعه، والجميع حوله في حالة سرور دائم يتسامرون حول مواضيع مختلفة منها الرياضية والسياسية والاجتماعية، وهم جلوس على المصاطب الخرصانية كحال معظم السودانيين في النقاش، حيث يعلو الصوت وينخفض حسب التون الذي يرتفع تبعاً لطبيعة القضية المطروحة. بيت عوض الله في غاية التواضع من الداخل يتكون من غرفتين وصالون ومزيرة وحوش صغير وحمام خارجي، يفتح شرقاً تجاه القبلة المشرفة وهنا موضوع قصة بيت الحاج عوض الله. شاءت الأقدار أن يشتري والدي- عليه الرحمة- منزلاً في واجهة هذا المنزل لننتقل شمالاً وكثيراً ماكان ينتابني القلق ليلاً فافتح الباب للخارج وأجد الحاج عوض الله ساجداً على سجادته أو ماسكاً بسبحته يترنم بأوراده التي لا تنقطع، كان منزله محروساً بآيات الله التي يحفظ بها المولى عزوجل عباده المؤمنين، كان رجلا ً نموذجياً في الحي مبادراً لعمل الخير، عربته تنقل الصباح بعض سكان الحي الى مدارسهم أو عملهم دون مقابل غير الدعاء بالبركة وأيضاً عربته تحت الطلب اربع وعشرين ساعة لنقل الموتى الى مثواهم الأخير... اجتمعت الأحزاب السياسية في هذا الحي المتهم بالعلمانية على اختياره رئيساً للجنة الشعبية، توافق عليه الجميع رجالا ً ونساءاً على رئاسة جمعية الزكاة يطلبها ويوزعها برضاء الجميع، أجمع عليه سكان الحي ليكون إماما ً لهم بالزاوية المتنازع عليها، طوال علاقتي معه لم أسمع يوماً واحداً قد ارتفع صوته على رجل أو امرأه في اصعب الأوقات.. نماذج كثيرة في حياة هذا الرجل المبجل. منزل تم تشييده في اوائل الخمسينات لم يتصدع ولم تتخلل حوائطه حتي المنازل التي من حوله قد تغيرت أشكالها وألوانها ارتفعت وازدادت ارتفاعاً، ولكن منزل الحاج عوض الله صار يزداد شموخا ًوعزةً، محافظا ً على جماله وقوته لرعاية ساكنه به كل يوم بل وكل لحظة.. انتشرت من حوله أشجار الزينة بألوانها الزاهية والتي كان يرعاها ويشذبها بين كل حين وآخر، زاد حجم الأسرة مع مرور الوقت.. فالبيت قد لا تسع مساحته الجميع. أراد الحاج عوض الله أن يوسع على أبنائه ففكر في بيع هذا المنزل وبناء آخر أكثر اتساعا ً ليشمل الجميع، فمهنته مقاول يمكنه الاستفادة من خبرته في تأسيس منزل حديث.. باع المنزل العتيق ورحل عوض الله من الحي، وأراد المشتري أن يستثمر المنزل فقام بايجاره لسكان من دولة أجنبية جعلت منه مطعماً يعج بالحركة والضحك وبيع المأكولات والمشروبات التي تتميز به هذه الدولة، وصار ملجأً ً لكل (جائع) ليأكل ويشرب.. وبلغ الضرر السكان المجاورين فاشتكوا للسلطات الرسمية التي راقبت ثم انذرت.. وأخيراً أغلقت المنزل المطعم . حكت لي جارتي أنها قد حلمٌت حلما ً غريباً إذ جاءها في منامها رجال يرتدون ملابس بيضاء وطواقي خضراء وقالوا لها إننا ذاهبون من هذا المنزل، إذ لم يعد لنا مبيتاً فيه فسألتهم.. ومن أنتم قالوا لها.. نحن ناس الحضرة لم يعد هذا المنزل يناسبنا.. لقد كان عوض الله يختم القرآن اسبوعياً.. تعجبت جارتنا واستيقظت من نومها عسى ولعل أن ترى ماحلمت به.. رمت ببصرها نحو المنزل الذي صار خاويا ً بعد إغلاقه بواسطة السلطات الصحية والمجتمعية.. لقد تكاملت الأدوار بين اللجنة الشعبية والسلطة التنفيذية ولم يعد بالإمكان أحسن مما كان في نظر المجتمع والساكنين حول المنزل العتيق.. ولكن للمولى عز وجل نظرة أخرى.. فعند هطول الأمطار وغضب السماء وارتفاع العواصف الرعدية أبت المياه أن تخرج من المنزل، فارتوى أساسه وصار يترنح أمام نسمات الهواء البارد الذي يعصف به من كل جانب. ويسبح بحمده وشكره، وكانت إرادة المولى عز وجل أن يسجد المنزل لله عزو جل، وينهار أمام أعين جيرانه وساكنيه.. ولله في خلقه شؤون . لقد توفي الحاج عوض الله قبل انهيار المنزل بفترة بسيطة ولم يشهد استئجاره للفئة الباغية.