مصالح مهمة انقرضت من الملاحظ والواقع المعاش.. والتاريخ الذي لا يغالط فيه.. أو تتناطح فيه عنزتان.. هو الغاء وانقراض مصالح حكومية عديدة ومعها وزارة مهمة.. كان لا غنى عن وجودها.. بالنسبة للخدمات التي كانت تقوم بها سواءً للمواطنين أو للدولة ذاتها.. وبلا شك ان هذا ادى الى التدهور المريع في كل خدمات الدولة المرتبطة بالجماهير ومرافق الدولة ذاتها.. وبالذات في الآونة الأخيرة.. والتي اضحت الشكوى منها على كل لسان.. وفي كل أعمدة الصحف وبكل يوم.. وكل ذلك يعود في الأصل والحقيقة والواقع.. لاندثار وانقراض بعض تلك المصالح الهامة والمهمة وبلا مبرر أو سبب محتم وضروري.. وذلك رغم ان هذه المصالح كانت تشكل عصب الحياة في الكثير من مرافق الدولة.. وايضاً لارتباطها بمصالح وخدمات كل المواطنين.. وكانت البداية بمصلحة الأشغال التي صارت وزارة فيما بعد.. ومصالح الوابورات والمخازن والمهمات والنقل الميكانيكي والبساتين والتنظيم التي كم افتقدناها كثيراً خاصة في مثل أيام الخريف هذه..ومن الأشياء التي الغيت وتلاشت ايضاً.. ومن غير دراسة ووعي.. أو حسبان لنتائجها وعواقبها.. وذلك رغماً عن أهميتها وضرورياتها. كانت الادارة الاهلية.. وما تمخض ونتج عنه هذا «الإلغاء».. وهذا موضوع سياسي شائك وطويل.. ولن أخوض فيه عملاً بالمثل «أبعد من الشر وغني ليهو».. وما يهمني كمواطن امدرماني.. هو الغاء شيوخ الاربع والحارات في كل مدن العاصمة المثلثلة.. فهؤلاء كانوا عيون السلطة.. كما انهم كانوا همزة الوصل بين المواطن وبينها.. حيث كنا نراهم اكثر قرباً منا وفي كل أمر يخصنا مع المركز.. خاصة في مراقبة الخدمات الخاصة بكل منزل واسرة التي كانت بديلاً لهم.. والتي صارت لا «تهش ولا تنش» وذلك لأن «يدها قصيرة وعينها بصيرة»! ولاحقاً سأتطرق في هذه السلسلة من هذا السرد عن حقائق مرة ومقارنات بين الأمس واليوم.. وهي ليست من بنات أفكار الخيال والرؤى أو الإستماع.. بل عشتها وعايشتها وشاهد عيان على عصرها.. وخلاصة ما أهدف إليه.. هو هل اننا نتطور ونتقدم في كل شيء وفي مناحي الحياة ككل.. مثل الدول التي نالت استقلالها بعدنا!! أم أننا نسير إلى الخلف وللوراء «180» درجة؟.. وأن الماضي كان الأفضل بكثير عن الحاضر الذي نعيشه ونكتوي بنيرانه ومآسيه حالياً.. اللهم لا شماتة.. ولكن هذا هو قدرنا.. فلا حول بالله؟! ويا حليل السكة حديد والله يجازي الذي كان السبب في تدهور هذا المرفق.. وما آل اليه حاله الذي يدعو الى الحسرة والكمد.. و«ياقلبي يا مقتول كمد» كما غنى حمد الريح في «الى مسافرة».. فالسكة حديد التي مثلها «القطار» الذي غنى له زنقار «من بف نفسك يا القطار».. وبابكر الذكار «قطار الشوق».. وود القرشي والشفيع «القطار المر» وسيد خليفة في «القطر نويت السفر» ومحمد عبد الوهاب «يا وابور قوللي رايح على فين».. فلأحكي عن أهميته ودقة مواعيده ومراقبة كل تحرك له اي «القطار».. ومن هذا الموقع الذي عشت تجربته وأنا طالب ابتدائي في قطار «كريمة السفري».. وبلا شك انه كان حال كل القطارات في كل الخطوط الاخرى.. وهو سرد لأيام جميلة في تاريخ العمر.. واظن اكثر أبناء الشمالية الأحياء.. قد عايشوه ومروا به. في ام درمان كان هناك ترام مخصص للمسافرين في كل قطار متجه لأحد الاقاليم.. ومنها قطار كريمة الذي كان يضرب به المثل في ازدحامه وكثرة ركابه.. فأول الهابط من هذا الترام.. وهو داخل لحوش المحطة.. وعند مدخلها.. كان يصادف المسافر ذاك البوفية الأنيق الذي كان يديره دائماً.. أحد الأغاريق «اليونانيين» وهم خير من اشتغل بالتجارة في كل مدن الوطن.. ومعهم الاخوة «اليمانيون».. وهذا المتجر أو البوفيه كنت تجد فيه كل أنواع «الزوادة» بالنسبة للمسافرين من أطعمة ناشفة من أنواع «الجبنة» المختلفة من عادية الى مضفرة الى رومية والطحنية ام لوز وحتى الطعمية كمان؟! وفي مكتب التذاكر كنت تجد الانضباط والوقوف بالصف ومن غير وجود شرطي.. وعندما يأتي القطار من الورشة يكون «الصنتور» مجهزاً بكل ما يلزمه من مأكل ومشرب من مصلحة «المرطبات» التي كانت تمون فندق القراند هوتيل.. ومراحيضه نظيفة وأزياره ممتلئة بالمياه النظيفة وكل مقاعد درجاته في أحسن حال.. والمراقبة ممن؟! من مفتش الادارة الانجليزي ذاته الذي تجده دائماً حاضراً وينسحب ذلك على كل المحطات النهائية الكبرى كعطبرة والابيض وحلفا وبورت سودان وكريمة وكوستي هو الذي يشرف بنفسه اي مفتش الادارة.. متفقداً كل قطار مسافر أو قادم.. ورغم ان هذا القطار المسافر.. هو خارج من الورشة معد وجاهز.. ولكن رغم هذا كنا نجد متابعة صلاحية عجلات عرباته.. وكم رأينا العمال (بشواكيشهم).. وهم يطرقون عجلات كل عربة فيه.. للتأكد من صلاحيتها. من دقة المواعيد في وصول وقيام كل قطار.. فمن محامد أيام زمان.. كانت السكة حديد تصدر كتيباً سنوياً يضم وصول وقيام البواخر والقطارات بكل محطة حتى يعلم بها كل مسافر كمعرفة وتنوير له وهو الكتيب الذي استلهم منه «ود الرضي» اغنيته الشهيرة «من الاسكلة وحل» الذي أحضره له مطربها الراحل الحاج محمد أحمد سرور.. ومن هذه الدقة والحرص في مواعيد القطارات.. المقابلة في قطار «كريمة السفري» الذي كان يلتقي بقطار الثغر.. وايضاً بقطار حلفا.. اللذان كانا يحملان المسافرين للشمالية.. وفي وقت محدد.. لا يحيدان. أراد الله ان أستقل مسافراً كل وسائل المواصلات البدائية والحديثة من الحمير والجمال والمشي كداري الى ديار الكبابيش.. وبالقطار الشال «محبوبي» الى الابيض وبورتسودان وكريمة وبكل أنواع اللواري والباصات السياحية.. كذلك بكل أنواع الطائرات من الدكوتا والفوكرز الى الطائرات النفاثة الحديثة.. وايضاً حتى «الطائرات الحربية».. ولكن يشهد الله.. بأني لم أستمتع واسر وابتهج.. بقدر سفري بالبواخر النيلية.. خاصة في أيام الفيضان «الدميرة».. الى موطني و جذوري في الشمالية «بفقيرانكتي» من كريمة على البواخر التي غنى لها أغلب مطربي الطنبور وشعرائه «جكسم بيه وفكتوريا وكربكان» وما أدراكم ما هذا «الكربكان» القوي.. الذي كان من أقوى البواخر السفرية على الإطلاق.. حيث كانت حمولته زائدة بالركاب.. ويكفي قولاً عن هذا.. هو انه يستوعب ركاب «قطر كريمة» الذي كان يضرب به الامثال في إزدحامه وكثرة ركابه.. وبقطره اي سحبه وجره لاكثر من صندل وهو محمل بالبضائع الثقيلة من التمور وانه قد لجن واستغني عنه اكثر من مرة.. ولكنه أعيد للخدمة لمرات ثلاث.. وحتى هذ البواخر المسافرة من كريمة «السفري» الى «كرمة النزل» لم تكن موعد وصولها ومغادرتها متذبذباً.. بل كان محدداً.. وبالدقيقة.. وتلك ايام سعيدة مضت «وكانت أيام سعيدة.. يا ربي مناي تعيده» لثنائي الجزيرة.. وتلك خطى كُتِّبت علينا.. فمشيناها.. ولكن أين المفر من محن و كُرَبِّ وشدائد هذا الزمان.. والف شكراً للموحي بهذا الموضوع «كمال عبد الحليم» وعمر محجوب سليمان.. وذلك لأنهما كانا الزناد الذي فعل ونشط هذه الذاكرة التي باتت خربة ؟.. ونواصل..