لابد لي أن أسجل في البداية التثمين العالي لمواقف السيد محمد عثمان الميرغني الأخيرة من قضايا الوطن، متجاوزاً المصلحة الحزبية، من غير مزايدة على المصلحة العليا للبلاد، أو مناقصة لها، فقد بادر برفضه القاطع للجنائية وثبت على هذا الموقف حتى الآن، ولم يشارك في تحالف جوبا الذي استهدف إسقاط النظام، ومن ثم زعزعة استقرار البلاد، وظل على عهده متمسكاً بوحدة الوطن. يكفي أنه خاطب الحركة الشعبية مؤخراً بتغليب خيار الوحدة، أرضاً وشعباً وحدوداً، وفقاً لاتفاقية السلام الشامل، وسائر المواثيق والعقود التي عقدها معها في الماضي، ورهن زيارة الجنوب بدعم الحركة لوحدة السودان (صحف الخرطوم الأحد 19 أكتوبر 2010)، ثم قارن هذا الموقف الوطني بمواقف الأحزاب الأخرى. السيد الصادق المهدي وبرنامج (الحكومة البديلة) لتجاوز عيوب سياسات الحكومة بزعمه، وهو اصطياد في الماء العكر، وتغليب للكسب الحزبي على المصلحة الوطنية، بينما لم يتبقَ على الاستفتاء سوى حوالي الشهرين، وزاد السيد الصادق المهدي بأن المجتمع الدولي ظل يثير تساؤلات عن الانتخابات الأخيرة وسلام دارفور وقرار الجنائية بشأن رئيس الجمهورية (آخر لحظة 2 سبتمبر 2010)، أما الانتخابات الأخيرة فرأي المجتمع الدولي في تقييمها هو القبول على الأقل في الشمال، على الرغم من الأخطاء التي صاحبت بدايتها، ثم صححت، فلم تؤثر على النتيجة النهائية، وزعم السيد الصادق بأنه قاطعها إنما هو زعم يفتقر إلى الدقة، فهو قد شارك فيها منذ بدايتها، فلما كشفت له الحملة الانتخابية أن الرئيس البشير وحزبه سيكتسحها حتماً، أنسحب منها بعد فوات الزمن المحدد للانسحاب! أما سلام دارفور، فقد أصدرت حوله الحكومة إستراتيجية شاملة، ولم يستطع السيد الصادق أن يقدم نقداً علمياً لها، قبل أن يقفز إلى الإستراتيجية البديلة، وأما قرار الجنائية الذي رفضه السيد الصادق في البداية، ثم تراجع وقدم المحكمة (الهجين)، فهو قرار مرفوض من الاتحاد الأفريقي والجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي وغيرها من المنظمات الإقليمية، فيما عدا الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، فهل هما اللذان يشكلان المجتمع الدولي أو المنظمات الدولية؟.. يبدو أن السيد الصادق قد وضع ثقل رهانه على (الجنائية) الموءودة، وقد رفضها الشعب السوداني رفضاً تلقائياً وعفوياً كاسحاً، وهو المعوّل عليه أولاً وأخيراً، ثم هل هذه القائمة من الاتهامات الواهنة هي قضية الساعة، وأمام القوى الحزبية تحدي الاستفتاء؟ لقد أدرج السيد الصادق في قائمة اتهاماته (غياب الحملة الفاعلة للوحدة)، فهل التعبئة للوحدة هي مسؤولية الحكومة وحدها أم هي مسؤولية سائر القوى الحزبية؟ ما تقوم به الحكومة هو فوق طاقتها في التعبئة من مشروعات الوزارات القومية في الجنوب، ومن مد خط السكة الحديد، وتغطية المدن الرئيسية بالاتصالات في الجنوب، ومن التأمين الصحي المفتوح، ومن اتفاقات أبرمت حول المشروعات الكبرى للبنيات التحتية في الجنوب، كالسدود والطرق، علاوة على إعلان التعبئة العامة لتغليب خيار الوحدة من خلال الأجهزة الإعلامية، والمنابر القومية، وستتوج بزيارة الرئيس المقبلة لمدن الجنوب، مع قيادات المؤتمر الوطني وسائر القوى الأهلية. فليذهب السيد الصادق المهدي للجنوب ليقوم (بالحملة الفاعلة للوحدة) من هناك، لقد زار هو وقياداته جوبا من قبل، ولكن لدعم التحالف ضد النظام، ويبقى عليه الآن أن يشارك في الحملة الفاعلة لدعم الوحدة، إبتداءً من مخاطبة الحركة الشعبية بهذا الدعم، كحليف قديم لحزبه، وذلك بدلاً من حديث الطرشان في الشمال، وخطاب الشماليين بالوحدة، وكأنهم سيصوتون في الاستفتاء.أما الأحزاب الأخرى وتكوين (جبهة عريضة)، أو (حكومة قومية انتقالية)، فهي كأنها تحرث في البحر قبل حوالي شهرين من الاستفتاء، مما يكشف عن ضآلة ثقلها الحزبي، وبعدها البعيد عن الأحداث، بينما يعمل الشريكان ليلاً ونهاراً لاستكمال ترسيم الحدود وإجراء الاستفتاء في موعده، وبحث الترتيبات المترتبة على نتيجته، وحدة أو انفصالاً.هذه هو الفرق بين من يقف مكتوف اليدين على هامش الأحداث، نهّازاً للفرص، حالماً بإسقاط النظام، وزعزعة الاستقرار، وبين من يواجه المسؤولية بشجاعة، ويصنع الأحداث، أو بين من لا يرى أكثر من موطء قدميه، ومصلحة وضعه الحزبي بعد الاستفتاء، وبين من ينظر إلى الأفق البعيد، ويتحسب لمقبل النتائج.فلتذهب هذه القيادات الحزبية إلى الجنوب في إطار تعبئة عامة، لمخاطبة الجنوبيين بمزايا خيار الوحدة بدلاً من الحديث عن جبهة عريضة أو حكومة انتقالية في الشمال، الجنوب هو ساحة التعبئة وليس الخرطوم.. والله المستعان.