إنّ مبادرة السيد الصادق المهدي التي طرحها أخيراً لإيقاف تدمير الوطن، تمثّل مشروعاً متكاملاً للدور الوطني الذي ينبغي أن تقوم به المعارضة في ظلّ تشبث المؤتمر الوطني بكل مقاليد السلطة. وكعادته في ابتكار الأسماء فقد أطلق على مبادرته تلك: «الحوكمة البديلة» وأياً كانت التسمية فإننا لا نملك إلا أن نقبل بها على مضض.. وذلك لأنّ السيد الصادق هو المعارض الوحيد الذي استطاع أن يقدّم خارطة جادّة لإيقاف العبث السياسي الذي يمارسه المؤتمر الوطني، لا سيّما بعد فوزه بالانتخابات.. فقد طرح السيد الصادق مبادرته في فترة أُصيب فيها جميع قادة المعارضة بالإحباط وهم يعانون من الإقصاء السياسي الذي ينتهجه المؤتمر الوطني حيالهم. ففي ظلّ كل هذه الظروف الإقصائية استطاع السيّد الصادق - وببصيرته الثاقبة- أن يتلمس قضية البلاد الحقيقية ليدرك أنها ليست الوحدة أو الانفصال وإنما السلام أو الحرب.. وقدّم تحليلاً عميقاً لما يمكن أن يؤول إليه الحال إذا تقاعس الشعب عن أداء دوره الوطني. ونحن نرى أنّ تلك المبادرة هي أهمّ مشروع للخلاص الوطني في الوقت الراهن، دون أن نكون مبالغين في رؤيتنا.. إذ أنّ أية حرب ستشتعل بالبلاد لن يكون ضحيتها المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لوحدهما، وإنما ستكون نتائجها كارثية علينا جميعاً. ولعل ما يمكن أن يُعاب على مشروع السيد الصادق أنه جاء متأخراً جداً، ولكن ما الذي فعلناه نحن من أجل السلام؟ وماذا قدمنا من أجل الوحدة؟ فالسيد الصادق قد طرح معادلة عصيَّة على قادة المؤتمر الوطني ليثبت أن إنسان الجنوب هو الغاية الحقيقية، فهل المؤتمر الوطني مستعد للتنازل عن نصيبه في بترول الجنوب مقابل الوحدة؟ فنحن في حاجة حقيقية لإثبات حسن النوايا، وإبداء التنازلات، لإحداث حراك سياسي هادف في الشارع السوداني. ولن يكون هنالك خاسر من تلك المبادرة، فالوطن الذي اكتوى بنيران الحروب والفتن سيجد في المبادرة تصوّراً لحل جميع مشاكله، إذ أنّها تقترح منابر قومية منها منبر للجنوب وآخر لسلام دارفور. والمواطنون الذين يعانون من الظلم والفقر وانتهاك الحريّات، سيجدون في تلك المبادرة منبراً قومياً للحريات وحقوق الإنسان، ومنبراً للإصلاح الاقتصادي. أمّا حزب المؤتمر الوطني فهو أكبر المستفيدين من تلك المبادرة، ذلك إن كان جاداً فعلاً في سعيه لتشكيل حكومة ذات قاعدة عريضة تتقاسم معه الأعباء التاريخية للمرحلة القادمة، لا سيما بعد تورطه باكتساح جميع مقاعد البرلمان، إذ أنّ هذه المبادرة لا تهدف لإسقاط النظام أو إقصائه، بل هي دعوة لعمل مرجعية قومية للمساهمة في الخلاص الوطني، وهذه الدعوة لم تغفل حتى عن مسألة المحكمة الجنائية الدولية واقترحت لها منبراً قومياً. والحركة الشعبية في حاجة للمبادرة التي بها «منبر قومي للجنوب يخاطب أهل الجنوب بمفردات العدالة وأهمها: مدنية الدولة - قومية العاصمة - بترول الجنوب للجنوب- كفالة الحرية الدينية والثقافية - الدور التنموي العربي في تنمية الجنوب- وقومية مؤسسات الدولة ودعم اللا مركزية. ويصحب هذا الطرح بروتوكول الجوار الأخوي بوصفه خطة بديلة للعلاقة بين الشمال والجنوب». وكذلك الحال مع أهل دارفور، إذ أن «المنبر القومي لسلام دارفور يقوم على استقطاب الرموز الأربعة «خليل ومني وعبد الواحد وسيسي» وسائر مكونات المجتمع الدارفوري: السياسية - والمدنية - والنسوية- والقبلية- والمهجرية». إذن لم يعد هنالك وقت للخلاف والصراعات العقيمة، فالوطن مقبل على عملية استفتاء خطيرة لها ما بعدها وليس أمام المعارضة سوى القبول بمبادرة السيد الصادق المهدي لتتبناها مشروعاً للخلاص الوطني، وفي سبيل ذلك عليها أن تُخْلِص نواياها وتتصل بقواعدها وجميع قطاعات الشعب السوداني التي بدأت تفقد الثقة في رموزها الوطنية. ولا شكّ أنّ تلك المبادرة ستواجه بردود فعل عنيفة لا سيما من قادة المؤتمر الوطني الذين لن يروا فيها إلّا مُهدداً حقيقياً لمصالحهم الشخصية، مما يجعلهم يستخدمون شتى أساليب التضييق والخناق لوأدها. وهناك فريق ثانٍ سيعدّها كفراً بواحاً وخروجاً على ولي الأمر المسلم! وسيرفضها آخرون لأنها فقط جاءت من الصادق المهدي ذلك الرجل الذي اتيحت له فرصتان لحكم البلاد لم يتمكّن فيهما من إيجاد حلّ لأزماته بسبب توجسه وتردده وتغليبه للمصالح الشخصية على المصالح الوطنية. فهذه المبادرة تمثّل الفرصة الأخيرة للسيد الصادق المهدي، ليثبت فيها أنّ مصلحة الوطن فوق كل اعتبار. وعليه ألا يتمسك بمشروعه هذا لينصب نفسه حاكماً بديلاً، لأنّ ذلك سيجعله يخسر السند الجماهيري الذي يمكن أن تحصل عليه مبادرته لو أصبحت مستقلة. ومن ثمّ تصير المبادرة مجرد تنظير لا يخدم البلاد في شيء، إذ لا مناص من وضع المبادرة على طاولة الجميع ليكون هنالك إجماع على البرنامج وليس على الأشخاص. وعلى السيد الصادق أن يكون مرناً في بنودها، وألا يعتبرها أمراً مقدساً غير قابل للأخذ والرد، وأن يسعى بكل إمكانياته لإنزالها إلى أرض الواقع. والأمر يتطلب أن تتاح الفرصة لكل قطاعات الشعب السوداني لتشارك في همِّ الوطن، ولن يتأتى ذلك إلا إذا توافرت الحكمة والإرادة السياسية كما ذكر السيد الصادق، وذلك هو مربط الفرس، فمشكلتنا الحقيقية لا تكمن في غياب البرامج الجادة، وإنما تكمن في نظرتنا الضيقة للمصالح الحزبية، إذ أنّ كلّ حزب يريد الكسب لجماعته فقط، وذلك ما يجعل معارضتنا بائسة ومتأخرة لا تنشط إلا لتسفيه أفكار الآخرين.