ü بالنظر للاهتمام الكبير من جهات ذات صلة بأزمة الخبز، نعيد- على غير العادة- نشر «إضاءة» الأمس.. حيث انصب الاهتمام من تلك الجهات المتصلة على الإقتراح بتولي الحكومة مسؤوليتها في توفير المخزون الإستراتيجي من القمح والقيام بشرائه مباشرة من الدول المنتجة عبر اتفاقيات ثنائية توفره بأفضل الأسعار وقت الحصاد وبتسهيلات دفع مُيَسّرة وتوقيتات استيراد حسب الطلب.. فإلى نص المقال بعنوان جديد: ü بين التفاتة عين وانتباهتها تحول الخبز أو الرغيف أو «العِيشْ»، بلغة السودانيين، إلى «قضية».. قضية تثير الزوابع الكلامية والتنظيرات والتصريحات «الفضائية- الهوائية».. فتسمع ضجيجاً كثيراً ولا ترى طحناً أو طحيناً وعيشاً رخيصاً.. ولجأت ولاية الخرطوم- مشكورة- إلى إقامة معرض وورشة عمل حول الخبز ومشكلاته وأنواعه بالساحة الخضراء، فغشيناها، كمراقبين، حتى نقف على الأبعاد الحقيقية لهذه القضية التي تثير كل هذا الضجيج وهذه الزوابع وبدأت آثارها السلبية تدخل إلى كل البيوت، خصوصاً تلك التي يشكل فيها «العِيشْ» أساس المائدة، فالمعروف عالمياً أن الفقراء يستهلكون خبزاً أكثر لسد جوعتهم وللحصول على الطاقة الضرورية لكدحهم وكدهم اليومي، بينما الأغنياء ينفرون من الخبز والنشويات لأن مائدتهم عامرة بأطايب الطعام وجميع أصناف البروتينات والفايتمينات، ويبذلون جهداً أقل في حركتهم اليومية فيتجنبون النشويات ومشتقاتها والسكريات عملاً بنصائح «الريجيم» ولتخفيف الأوزان الضارة بالقلوب والشرايين «التريانة». ü في صحبة صديق الصبا والرياضة اليومية د. نصر الدين شلقامي، رئيس الجمعية السودانية لحماية المستهلك، وهو خبير أغذية في الوقت ذاته، زرنا إحدى الخيام المنصوبة لإحدى شركات الطحين وصناعة الخبز، ووقفنا على الجهد المبذول في هذا المجال وتحدثنا إلى مختصين حول القضية من جميع جوانبها، لكن- بحكم المهنة- ركزت على البحث في أسباب الأزمة الحقيقية ومسارب النمل الأبيض الذي ينخر في الجذور. ü تحدثت لاحقاً إلى خبير كبير في أبحاث الأغذية، التقطت من حديثه العابر في تلك الليلة، بعض المؤشرات حول تلك الأسباب «المسكوت عنها» التي تقف خلف الأزمة وتثير كل ذلك الضجيج دون تشريحها أونزع الغطاء عنها، فوصلت من خلال حواري معه إلى حقائق مهمة يجب أن يطلَّع عليها الرأي العام وينتبه لها المسؤولون وأصحاب القرار، «ولا ينبئك مثل خبير» كما يقولون: ü قال محدثي خبير الأغذية: إن المشكلة الرئيسية لوفرة الخبز وأسعاره تكمن في طريقة الاستيراد، ونحن نستورد معظم المادة الرئيسية لصناعة الخبز- التي هي القمح- من الخارج، وليس من المتوقع أن نكتفي ذاتياً منه في المدى المنظور، لأسباب عديدة أهمها المناخ وتوفير المال اللازم للانتاج.. نستورد القمح وندعمه بسعر مخصوص للدولار هو (9.2) دولار مقابل الجنيه، بينما سعره «الرسمي الموازي» أضعاف هذا السعر المخصوص. ü القمح أنواع، وتُصنف جودته حسب نسبة البروتين أو «الجلوتين الرطب» فيه، والشركات العاملة في هذا المجال، وتملك المطاحن، يتجه معظمها لاستيراد القمح الأعلى جودة لأسباب أهمها «المنافسة» وأسباب أخرى سيرد ذكرها لاحقاً.. وتتراوح أسعار أنواع القمح المستورد بين (200 و 600) دولار للطن، وتعمد معظم هذه الشركات إلى استيراد الأغلى لأنه مطلوب لدى أصحاب المخابز الذين اعتادوا على التعامل مع «الدقيق الفاخر»- الفينو- لأنه أكثر سهولة في صناعة الرغيف بحكم الخبرة والعادة المتوارثة، ويعتقدون خطأ أنهم ب«الفينو» يقدمون خبزاً أفضل. ü من مشكلات هذه الطريقة أو «المعادلة» في توفير القمح للمطاحن والطحين للمخابز، هو أن عملية الاستيراد متروكة للشركات والمطاحن، التي تقرر بدورها ولأسباب- غير ضرورية- نوعية القمح المستورد، دون مراعاة للسعر، لأن الخاسر في النهاية هو «الدولة» التي تدعم و«المواطن» الذي يستهلك، فتلجأ لشراء أغلى أنواع القمح من كندا أو استراليا مثلاً ب(400) أو (500) دولار للطن الواحد، ويزيد من غلائه بُعد المسافات بينما في إمكانها شراء القمح ب(200) أو (250) دولار للطن، ولا يخلو الأمر- بما أنه مدعوم بالدولار الرخيص- من شبهة فساد، من خلال «تعظيم الفاتورة»- أي رفع قيمتها- أو ما يعرف بال«OVERINVOICE» فتكون «الدولة» قد خسرت مرتين بالدعم لسلعة أو«عينة» غير ضرورية، و«بالكمية» المدعومة التي هي أقل مما يمكن توفيره بذات الدعم. ü محدثي أبلغني بحقيقة فاجعة هي أن دولاً مثل السعودية والامارات ودول الخليج وجميع دول أروبا لا تستخدم هذا «الدقيق الفاخر» في صناعة الخبز، برغم أن أي زائر لهذه الدول يمكنه أن يلاحظ جودة الخبز هناك مقارنة بما لدينا من خبز نصنعه من هذا الدقيق الفاخر، والسبب هو جودة التصنيع وتقدم تقنياته. ü الخبير ألحَّ على أن الحل الناجز لأزمة توفير القمح والدقيق يكمن في لجوء الدولة للاستيراد بنفسها وليس عبر الشركات، كما تفعل معظم دول العالم، باعتبار القمح سلعة إستراتيجية لا تترك لتقلبات السوق، وذلك عبر اتفاقيات معلومة مع الدول المنتجة، فمن بين أسباب الغلاء والتقلبات هو الشراء في غير مواسم الحصاد، بناء على احتياجات الشركات، ولذلك انشئت الصوامع للتخزين، وهذا نهج معتاد وتدبير عرفته الإنسانية منذ أقدم العصور وتحدثت به الكتب السماوية وقصص القرآن الكريم (سورة يوسف عليه السلام مثالاً)، فما الذي يجعل حكومتنا تُوكل مثل هذه المهمة الإستراتيجية «لشركات الطحين».. فإذا كانت مضطرة لدعم «لقمة المواطن» فلتفعل ذلك من تلقاء نفسها، ولا يقدح هذا من قريب أو بعيد في «سياسة التحرير» التي تنتهجها، والتي أصبحت مشجباً لتعليق الأخطاء وباباً مفتوحاً لممارسات الفساد والهروب من الرقابة والشفافية. ü محدثي دعا أيضاً إلى تطوير «صناعة الكسرة» كما فعل الوزير «عبد الوهاب موسى» في الستينيات، وذلك يجنبنا الاعتماد المتزايد على القمح المستورد بحيث تصبح «الكِسرة» مكوناً رئيسياً في وجبة السودانيين الأساسية، وبحيث يغدو الرغيف مكوناً إضافياً في الفطور أو الغداء.. خصوصاً بعد أن أصبح طعام السودانيين يعتمد في الغالب على وجبتين وليست ثلاث كما كان في الماضي.. ونبه في النهاية الى أن «الدقيق الفاخر» يمكن أن يقتصر على صناعة الحلويات وما شابهها، بما يقلل الطلب عليه، كما يمكن إضافة الذرة السودانية (الرفيعة) إلى دقيق القمح وأن يصنع منه رغيفاً ممتازاً شكلاً ومذاقاً، كما رأينا عياناً بياناً في معرض الساحة الخضراء.