وما زلت في قاعة الشارقة الجميلة.. وما زالت روح البروف محمد عمر بشير تحلق بعيداً في فضائها الرحيب.. وكأني أراه فارهاً منتصباً مبتسماً سعيداً بثمار «عزة» التي تنحدر من رحمها.. كأحلى وأنقى الثمار.. وتضاء الأنوار مرة أخرى.. ومنصة تشع بريقاً.. وتتعالى في شموخ وكبرياء وتتواضع رغم ابهارها البديع.. كوكبة من قامات الوطن المدهشة.. وأفلاكه المتوقدة تماماً على يمين «نور الهدى» كان البروف العالم «عبد الملك النعيم» المدير السابق للجميلة ومستحيلة جامعة الخرطوم وفي أزهى وأنضر أيامها.. يطلب منه المتحدث نيابة عن أروقة الحديث.. وفي تواضع العلماء يحول المكرفون إلى الاستاذ الوقور عبد الباسط عبد الماجد.. والذي في عدالة ميزان دقيق وماهر يوزع الفرص إلى الكوكبة الجالسة على المنصة.. ويهطل مطر الكلام.. وتتدفق سيول الإفادات والإشادات بالدار وعزة ونور.. توقفت طويلاً وانتشيت طروباً وجل المتحدثين يبدأون الحديث عن «نور الهدى» بأنهم عرفوه وراء جدران سجن كوبر العنيد.. جمعتهم حجراته وحيشانه وهم يدفعون في فرح أو كرم ضريبة حب شاهق للوطن.. أبداً ما جاءوا لكوبر لأنهم قتلة.. أو «حرامية» أو بتهم اختلاس ولا ولوغاً في المال العام.. كانوا كلهم وبعد أن أطاحت بهم مقصلة الصالح العام.. كانوا كلهم معتقلين في تلك الأيام المشتعلة بالجحيم.. يتحدث البروف «النعيم» ويتحدث الاستاذ عبد الماجد.. ويتحدث عالم عباس وفيصل محمد صالح.. لا يتركون وشاحاً إلا ولبسوه «نور الهدى» زهواً وفخراً.. لا يتركون قلادة إلا وأحاطوا بها عنق من انشأ «دار عزة» عزاً ومجداً.. ولكن هل غادر الشعراء من متردم.. نعم يا عنتره.. و «غصباً عنك».. فقد جاء دور عريس الحفل.. ونجم الليلة.. وقمر الاحتفال.. أمسك نور الهدى «المايك» بقوة.. وعيونه توحل في دموع الفرح بوفاء الرجال والنساء.. يحدثنا عن «عزة».. التي لا تأبه قليلاً أو كثيراً للمال.. يتحدث عن واجبها الأول والثاني والألف والأخير هو رفد المكتبة السودانية وحتى العربية بروائع الأعمال.. تعيد زماناً زاهياً وعمراً باهراً.. عندما كان للكتاب حضوراً ووجود.. أدهشني الرجل وهو يغسل قلبه ونفسه من الغل والغضب.. حدثنا عن كيف هي ديمقراطية المعرفة.. كيف تكون ديمقراطياً وعادلاً وأنت تنشر لكل ألوان الطيف.. تنشر للذين في اليسار الأقصى ولليمين القصي.. ويستشهد الرجل «بياناً بالعمل» وكيف أنه نشر خمسة عشر عنواناً لرمز اسلامي معروف حدثنا والعبرة تخنقه بأن «المانيا» قد اقامت معرضاً للكتاب العربي وفي تلك الأيام المفزعة لم تقدم دعوة للسودان ليشارك في ذاك المعرض.. عز على الرجل أن يغيب السودان عن ذاك العرس الكبير.. امتلأ بالأسى وهو يرى أن كل الدول العربية تشارك في المعرض باستثناء السودان.. فحمل كتبه الصادرة من «دار عزة» وافترشها في «رصيف» أوعلى أرض المعرض وقف خلفها وهو يعتمر «الجلابية والعمة» في ذاك البرد المخيف.. كل ذلك وكل تلك الرمزية هو الصراخ عالياً لكل العالم بالكتب و «اللبسة القومية» إن السودان هنا.. «شفتو النبل كيف» لم يأبه بفصله للصالح العام.. لم يأبه بأيام عصيبة «حشرته» فيها الحكومة وراء الجدران والقضبان.. تعالى في بسالة على كل تلك الجراح استيقظ بل نهض مارداً في تجاويف صدره الوطن البديع والجميل والنبيل.. وتدوي القاعة بالتصفيق.. إيذاناً بانتهاء يوم بهيج وبديع وسعيد.. كان يوماً للفرح..ويوماً للوفاء.. ويوماً للثقة في المستقبل..ويوماً اسفرت فيه سماء الوطن عن وجوه تشرف الوطن ويتشرف بها الوطن.. أما لحظة الحزن الوحيدة في ذاك اليوم هو الغياب التام للدولة التي لو أرسلت مندوباً بأي درجة لكان موقفاً يحسب لها.. ولكنها أبداً تهدر السوانح.. كما يهدر مهاجم «اشتر» اصابة الهدف وهو في مواجهة المرمى.. شكراً «نور».. شكراً «دار عزة».. شكراً أروقة..