ü جاء في أخبار السبت أن وزارة المالية وجهاز شؤون العاملين بالخارج قررا «إعادة النظر» في قرار فرض «ضريبة جديدة» على المغتربين عبر لجنة مشتركة من الجانبين. ü صيغة «القرار» بهذه الكيفية التي صدر بها غامض.. «فإعادة النظر» تعني «المراجعة»، وليس بالضررة أن تنتهي هذه المراجعة ب«الإلغاء».. إلغاء قرار سابق أو فكرة ما، كما أن المراجعة أو إعادة النظر تتصل هنا بالحديث عن «ضريبة جديدة»، ما يوحي بأن هناك «جباية» أو ضريبة أخرى تنتوي المالية فرضها على المغتربين غير تلك «الضريبة القديمة» التي طالب المغتربون والسودانيون بإلغائها منذ سقوط نظام مايو، لكنها بدلاً من الإلغاء اتخذت لها اسماً جديداً- بقصد التجميل والإيحاء بأنها فعلاً إرادياً من جانب المغترب دعماً وامتناناً لجمايل وطنه عليه- فاسموها «المساهمة الوطنية» وإن لم تكن كذلك.. فقد كانت «قسرَّيتها وجبرَّيتها» ليس محل شك، سواء في التعامل مع السفارات التي لا تجدد لك جواز سفرك أو تنجز لك أي خدمة قنصلية أو رسمية إلا إذا دفعت «المعلوم» أو في التعامل مع دوائر الجوازات والهجرة عندما تطالبتك ب«السداد» إن لم تفعل عندما تقرر العودة إلى محل عملك بعد امضاء عطلتك في السودان، حتى تحصل على «تأشيرة الخروج». ü حكوماتنا المتعاقبة «ودرت الدرب وراح ليها» وراحت الحكمة عنها منذ البداية في كيفية التعامل مع المغتربين، لا لسبب إلا أن الحكاية- حكاية الاغتراب- في حد ذاتها كانت جديدة عليها ولم تعمد إلى دراسة تجارب الآخرين في هذا المجال.. مصر أو لبنان على سبيل المثال. ü وفي هذا تحضرني تجربة شخصية.. أذكر أنه في شهر أغسطس من عام 1974م، توجهت إلى دولة الإمارات العربية المتحدة بهدف الاغتراب والعمل هناك، بعد أن حصلت على إجازتي السنوية من «وكالة السودان للأنباء» حيث كنت أعمل، وعندما تقدمت بأوراقي لإدارة الصحافة بوزارة الإعلام الإماراتية وتم قبولي من رئيس الإدارة الفلسطيني «الأستاذ زكي نسيبة» ورفعت أوراقي لوكيل الوزارة وكان حينها استاذنا علي شمو، رحب الاستاذ بمبدأ التحاقي بالوزارة، ولكنه أبلغني تعليمات وزارة الاعلام السودانية بقوله: إن الأخ عمر الحاج موسى- رحمه الله- طلب منا عدم قبول أي منتسب لوزارة الاعلام إلا إذا ما تقدم باستقالته ووافقت إدارته على ذلك.. فاسقط في يدي، فاتصلت بالاستاذ مصطفى أمين- شفاه الله وعافاه- وأبلغته استقالتي وطلبت منه أن يبعث إليّ بما يُفيد بقبول الاستقالة، ففعل مشكوراً، وبهذا تمكنت من الإلتحاق بإدارة الصحافة في دولة المهجر، بعد انتظار دام لأكثر من أسبوع في انتظار رد «الوكالة». ü الشاهد في القصة، إنني عندما تعرفت على زملائي الإعلاميين والصحافيين المصريين وأوضاعهم و علاقتهم بمواقع عملهم في بلدانهم أدركت الفرق والمفارقة في كيفية تعامل حكومتنا مع أبنائها المغتربين ومعاملة الحكومة المصرية لمنسوبيها، فقد كان هؤلاء الزملاء المصريين وغيرهم يحتفظون بمواقعهم ومناصبهم في بلدانهم ويذهبون للعمل في الخارج بناء على «إذن عمل» كما يحتفظون بحقهم في التدرج الوظيفي بحيث يتساوون مع زملائهم الآخرين في الترقيات، وتسلم المناصب بعد عودتهم حسب خبرتهم وسني عملهم، وبالإضافة إلى ذلك فهم لا يدفعون أية ضرائب لقاء عملهم بالخارج، ويحصلون على إعفاءات جمركية أو يدفعون «جمارك تشجيعية» اسمية على ما يستوردونه من ممتلكاتهم الشخصية «العفش أو السيارة» وما إليه، لذلك كنا نرقب فارقاً ملحوظاً بين سلوك المصريين والسودانيين في الاغتراب، فبينما كان المغترب المصري يحول جُلَّ راتبه لمصر كان المغترب السوداني يصرف راتبه في بلد المهجر ويحول لأهله المصروفات والملابس واحتياجات العلاج، وكان من بين الأجوبة التي نحصل عليها من إخوتنا المصريين عن سر تحويلهم لمدخراتهم إلى بلدهم هي إنه من الأفضل لهم أن يشتروا احتياجاتهم من مصر لأنها هناك أرخص ومصحوبة في الغالب بالضمان والحوافز.. بما يعني أن لدى مصر منظومة اقتصادية جاذبة لأموال المغتربين. ü لفترة قصيرة أيام نميري حاول السودان تطبيق سياسات شبيهة بتلك التي في مصر، فعمد إلى تشجيع المغتربين وتحفيزهم عبر توزيع الأراضي، وعبر إعفاء بعض وارداتهم من الجمارك، فاندفع المغتربون في هذا الاتجاه، لكنها سياسة لم تدم طويلاً فارتدت الدولة على أعقابها وتنكرت لها و «عادت حليمتها إلى قديمها»، فاصبح على المغترب واجبات وليس له أدنى «حقوق»، فقط عليه أن يدفع، بمنطق أن هذه البلاد «آوته وعلمته» ويحمل جنسيتها وجواز سفرها، وذلك منطق اعتساف يفتقر إلى الحكمة، فكل البلاد تأوي مواطنيها وتربيهم وتعلمهم باعتباره حقاً طبيعياً، ولا «تعاقبهم» نظير أنهم هاجروا للعمل في الخارج، لأن من يجد عملاً في بلده أو دخلاً مريحاً يقيم أوده ويلبي احتياجات أسرته لن «يضطر للهجرة» ويتجشم عذابات الغربة. ü التوجه الجديد الذي جاء في طيات الخبر، برغم الحديث الغامض عن «إعادة النظر في قرار فرض ضريبة جديدة» يوحي بأن وزير المالية الجديد والوزارة بدأوا يدركون أهمية اعادة النظر في كيفية التعامل مع المغتربين، فالوزير بدر الدين محمود قال في الاجتماع المشترك مع أمين عام المغتربين كرار التهامي بضرورة «إيجاد بدائل تشجيعية» و«أهمية النظر في حقوق المغتربين قبل واجباتهم» ودعا الجهاز «لتنظيم الهجرة وتأهيل المغتربين وتدريبهم» ودعا «لاستقطاب استثمارات المغتربين في مشروعات حكومية» وهنا ننبه لتفادي تكرار تجربة «مشروع سندس» المأساوية. ü المهم نحن في انتظار خطوات عملية تخفف حالة النفور بين المغترب السوداني ووطنه، وأولها رفع «الجبابات»- ضريبة أو مساهمة وطنية- وتصميم سياسات تشجيعية حقيقية تحفز هؤلاء للارتباط بوطنهم، ليس عاطفياً فقط، وانما لاسباب عملية وفوائد محسوسة تقف وراء هذا الارتباط. تنويه: ورد خطأ طباعياً بعنوان إضاءة الأمس فبدلاً من (كوستيالمدينة الذبيحة) اضيفت «ميم» قبل «الذاء» فأصبحت (المذبيحة) وهذا ما لزم التنويه والاعتذار.