قبل ربع قرن من الزمان وعندما كانت الإنقاذ انقاذاً كنت في مقدمة كتابها في مجال الأفكار والرؤى والدفاع عنها لتثبيت أقدامها، كما كان قلمي على أعدائها بتاراً يفري هامة من ينالها. كنت أعلم أن الرسالات التي تدور في أروقة المطابع، تصل الى حيث أردنا لها أن تصل، بل كانت تجد صداها ومفعولها بل كنت أحس أن الفتى الثائر وهو في مقدمة الركب يبعث برسائل في خطبه ولقاءاته تنبئنا أن رسالاتنا قد وصلت. وقد اقترحت للإنقاذ وهي فتية أن تنشيء مجلساً للإعلام تسميه ما تسميه بقيادة وزير الإعلام لكونه وزيراً لا بشخصه، وقد فعلت الإنقاذ ولكن جاءت اللجنة مبشرة تحمل بذور فنائها ثم ذهبت مع الريح. كنت وما زلت ادعو ليكون في البلد مؤسسة إعلامية من المفكرين الوطنيين الذين يحملون الوطن ومعتقدات المواطن في حدقات عيونهم، ثم يبلورون ما يتفقون عليه كمنهج ديناميكي متجدد ومتطور يجمع ولا يشتت، ويكون مشكاة يشع منها النور فينير الطريق للمواطن وللحكومة وللأحزاب. إذا لم تفشل الإنقاذ في تطبيق الاقتراح بشأن المؤسسة الإعلامية لكان الآن السودان من أكبر بلاد الدنيا استقراراً، ولما عرفنا الحركات المسلحة والجهويات والعنصريات التي عشعشت وفرخت وطيرت وهي في كنف الإنقاذ والسبب الرئيسي في نظري أن الرسائل المخلصة التي كانت دافئة وأحياناً ساخنة، قد حيل بينها وبين القيادة. كبرت البطانة وباتت عازلة وحاجبة حتى لا ترى القيادة ولا تسمع إلا الذي تريد، ثم إذا كانت وسائل الإعلام ووسائطه عصية عن الترويض تزاح عن الطريق ويشرب المخلصون من الكتاب والمفكرين من البحر. تضخمت البطانة وترهلت حتى أمست هي المشكلة، وقد سمعت أن الرئيس قال والناس يتكلمون عن المنطلقين للوزارات والمصالح، قال الرئيس- والعهدة على الراوي- كلما صليت في مسجد وسلمت بعد الصلاة أجد عن يميني واحداً وعن يساري واحداً علم بخبرته ماذا يريدان. كتبت يوماً للشيخ علي عثمان وأنا أكتب عن الزراعة انك برعايتك لما يسمى بالنهضة الزراعية ننشيء جهازاً موازياً لوزارة الزراعة، وأن العاملين بها وهم أهل خبرة سيحسون بأنهم فاشلون إذ من المفترض إن كانت ثمة نهضة أن تنطلق من الوزارات، وتنزل للوزارات في الولايات، ثم تنزل الى الحقول محك النهضة ومحلها. يلومني الناس على قول الحق الذي لم يترك لي صديقاً.. الآن ومن ذات المنطلق أقول لمن يسمع واكتب لمن يقرأ ومن بيده القرار أن الحكومة أهملت المساجد إهمالاً شنيعاً، وتركت لإدارات الدعوة الحبل على القارب، فكان الإهمال الذي أتى من خلالها والفتن التي أحياناً يشتد أورارها فيخمدها العقلاء من فعل بعض من توليهم الحكومة أمانة الدعوة فيخونون الأمانة والمهنة والحكومة التي عينتهم. لم أكتب ذلك من فراغ، فأنا كسائر المسلمين والحمد لله من المترددين على المساجد، وسأروي حكاية مسجد لو لم أكن شاهداً عليها لوجدت صعوبة في تصديقها. في الإسكان الشعبي بمحلية جبل الأولياء- وحسب الخرطة- توجد مساحة برقمها كمسجد وحررت إدارة الإسكان شهادة بذلك. جاء رجل من السعودية يبحث عن مساحة يشيد فيها مسجداً، ولا يعلم أحد إن كان هو المحسن أم أنه عنه وكيل، فبنى المسجد ووجد المصلون أن إماماً لا يحسن القراءة كثير اللحن ورغم فقر فكره فهو متطرف وساخط على الحكومة، بل هي في نظره غير شرعية ولا تطبق الشريعة، كما أن الجمارك حرام والحرام عنده أكثر من الحلال، أما عن الصوفية فهم منحرفو العقائد في نظره.. المصلون المغلوب على أمرهم ساخطون وترك معظمهم الصلاة خلف هذا الإمام. في نظر لجنة المسجد لم يكن المسجد في حاجة الى تسجيل لأنه حكومي في منطقة حكومية.. فجأة وبدون مقدمات وجدت الدفعة الخامسة في الإسكان محسناً أكثر ثراءاً ليشيد لهم مسجداً في مساحة ليست مخصصة لبناء مسجد، وهي جغرافياً اقرب الى المسجد المعني، ولأن معهم جهات نافذة في وزارة الإسكان الولائية استطاعوا تغيير الخرطة، بحيث أن مساحتهم المعنية عامة «GR» أصبحت مسجداً والمسجد القائم أمسى مساحة خالية « GR» يا جماعة شفتوا الفوضى في دواوين الحكومة الى اي مدى؟. الله سبحانه وتعالى يقول «ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها» ديل مش خربوها فقط بل لغوا المسجد من الوجود. عمال الحكومة الذين نثور فيهم ونحملهم المسؤولية والأمانة يضربون الحكومة في مقتل ويشقون الصف ويمنعون مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ولا يسعون في خرابها بل يزيلونها من الوجود. بدت لجنة المسجد مشواراً قاسياً لتسجيل المسجد حتى لا يزال بفعل من أولاهم النظام ثقته بغير وجه حق.. بالاجتهاد والعلاقات ولأن المسجد قائم ولأن الناس يملكون الخطة القديمة والجديدة تم تسجيل المسجد لإدارة الدعوة. طلبت اللجنة التي انتهى أجلها من مدير إدارة الدعوة بالمحلية أن يشكل من المصلين لجنة جديدة، وقد أعدت اللجنة القديمة كشفاً بأسماء المصلين المداومين وعلقته على أبواب المسجد للطعن. عصراً عند الميعاد أشرف مدير إدارة الدعوة على تكوين اللجنة، حيث نال الإمام المفروض على المصلين ثلاثة أصوات مع صوته، وفي الحقيقة وطوال عشر سنوات لم يجند إلا واحداً فقط أما الاثنان الآخران فأحدهما غلام حظه من التجربة قليل، والثاني يطالب منذ زمن بتغيير الإمام ويقولون «اتقوا الله فينا». بمجرد تكوين اللجنة ثار الاثنان متوعدين ومهددين وظنوا أنهم ما نعتهم ما زالوا فيه.. لأن اللجنة نالت ما يشبه الإجماع. نسيت أن اذكر أن جماعة الإمام عندما أحست أن المسجد سينفلت من يدها ويسجل للحكومة جاء من شيد المسجد وقال بالحرف الواحد إنه دفع لحكومتكم رشوة، ولكن تصدى له أمين اللجنة السابقة قائلاً: ما أنت إلا راشي وأن الموظف الذي دفعت له مرتشي ولا شأن لحكومتنا بما فعلت. كانت اللجنة تعلم أن ملفاً سرياً موازياً لملفها يسير بين دهاليز المكاتب تدفعه الرشوة والأيدي الآثمة، ولكن اكتشفت الرشوة وقبض من حاول أن يمسح المعلومات من الكمبيوتر وفصل من العمل. حسب لوائح مجلس الدعوة، فاللجنة الشرعية تمثلها تماماً وتكون مسؤولة حتى عن الإمام وخطبه وتنظم كل شؤون المسجد. طلبت اللجنة الجديدة من مدير الدعوة بمحلية جبل الأولياء أن يعين إماماً، وقد ظلت اللجنة السابقة تطالب المدير السابق بتغيير الإمام المفروض بدون مسوغ.. قال مدير إدارة الدعوة إنه ليس لديه فائض وطلب من اللجنة أن تبلغ الإمام بأن آخر سيخلفه، وذلك تحسباً للحرج ثم قال رشحوا له من لا يكلفكم شططا، رشحت اللجنة إماماً تحفظ عليه المدير ثم رشحت آخر، وهو فقيه ودكتور في الفقه، وأستاذ جامعي، ولكنه رفض وطلب من اللجنة أن تجلس مع مندوب جماعة الإمام فإذا كان الإمام جاهلاً يعلموه وإذا لم يكن حافظاً يحفظوه، فقال رئيس اللجنة للمصلين هؤلاء يريدون ضد رغبتهم استمرارية الإمام وليتعلم الحجامة في قفا اليتامى. الملخص المحزن أن موظف الحكومة المسؤول عن المساجد والذي من ناحية أخلاقية كان من المفترض أن يكون مخلصاً في مهنته صادقاً مع لجنته يطلب من اللجنة أن تجلس مع مندوب الجماعة التي اعتادت على إزكاء نار الفتنة حينما استقرت. فهذا شيء عجاب بولاية الخرطوم أكثر من خمسة آلاف مسجد يؤدي فيها الصلاة الملايين، وهم أطهر الناس وأقوم الناس تمنح الحكومة ثقتها بلا متابعة ولا مراقبة لمن يرعون الفتن في هذه المساجد. في ندوة خاصة جداً في لقاء صالوني تكلم المجتمعون عن قضية المساجد وكان معهم ذلك المدير وقال في المنصة كلاماً أشهد الله أنه لم يكن دقيقاً بل خلط فيه الصالح بالطالح والسقيم بالصحيح، ولكن تصدى له الناس المكتوون بنيران الحكومة التي تعين من قبلها من يؤذيها في أعز ما تملك يؤذيها في عقائد الناس وتسوية صفوفها وأمنها وإيمانها. طيب يا جماعة إذا كانت الحكومة تمنح نفسها هكذا لإدارة الدعوة الإسلامية فكيف بالآخرين؟ فنحن عينك ايتها الحكومة فإنك تؤتين من قبلك ومن بطانتك وممن تحسبينهم مخلصين شكلاً، ولكنهم موضوعاً غير ذلك.