درجنا بين الفينة والأخرى، على الخروج من الوتيرة المعتادة لهذه الزاوية، المعنية بمعالجة موضوعات علمية جادة، وأحياناً جافة لغير أهل الاختصاص، للحديث عن أو ترجمة لبرلمانيين متميزين أثروا التجربة البرلمانية السودانية، ورسموا أسماءهم بأحرف من ضياء، على سجل تاريخنا السياسي والتشريعي. ومن بين هؤلاء يقف د. عبد الحميد صالح، الراحل المقيم، أُنموذجاً متفرداً، ومثالاً حيَّاً، لثلة من رجالات الحركة الوطنية السودانية، عُرفت بالوفاء الشديد للوطن، والتمسك بالقيم السودانية الأصيلة، مع خلق شخصي رفيع، وطهارة يدٍ وعِفة لسانٍ، ونقاء سريرة. يصعب في مقالة قصيرة كهذه، إيفاء رجل في قامة د. عبد الحميد صالح حقه كاملاً، وتغطية جوانب شخصيته الغنية الفذة، كوطني غيور، وسياسي محنك، وعلى المستوى المهني رائد من رواد مهنة الطب في السودان، فضلاً عن دوره القيادي بحزب الأمة القومي، وتقلده للعديد من المناصب الوزارية المهمة كوزارة شؤون الرئاسة، والدفاع، واسهاماته الكبيرة تجاه القضايا المهمة، لأكثر من ستين عاماً ظل فيها د. عبد الحميد صالح رقماً فاعلاً في دهاليز الحياة السياسية، ودوائر العمل الحزبي بالسودان منذ اربعينات القرن الماضي وحتى رحيله قبيل سنوات، بل إن داره العامرة بالخرطوم- شارع الأطباء- ظلت طيلة هذه الفترة ملتقى لأطياف اللون السياسي، ومثابة للحوار والشورى، ودأب علية القوم وأولو الأمر على زيارته للاستئناس برأيه وحكمته، عبر هذه الحقب المختلفة، وخاصة لدى الأزمات وعند المِلَّمات. الدور البرلماني للدكتور عبد الحميد، برز بصورة واضحة في فترة أواخر سبعينيات ومطلع ثمانينيات القرن الماضي، في أعقاب المصالحة الوطنية التي تمت بين الجبهة الوطنية المشكلة آنذاك من حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي والإخوان المسلمين من جهة، والنظام المايوي من جهة أخرى، والتي نتج عنها انخراط كوادر هذه الأحزاب في مؤسسات الحكم بما فيها البرلمان أو مجلس الشعب، وكان نصيب حزب الأمة ممثلاً في د. عبد الحميد صالح، هو تولي موقعين قياديين بالمجلس كانا على التتابع موقع رقيب المجلس ثم موقع نائب الرئيس. ü رقيب المجلس كان بحكم منصبه رئيساً للجنة الرقابة الإدارية، وهي النظير لمحتسب المظالم في الدولة الإسلامية، والأمبودسمان في الدول الغربية، ولقد نُص عليها في الدستور وخُصص لها قانون ولائحة، كما أنيطت بها مسؤولية جسيمة تمثلت في التحقيق في الشكاوى والظُلامات المتعلقة بسوء الإدارة والفساد والمحسوبية والتسيب.. أمّا منصب نائب الرئيس فلم يكن أقل شأناً من حيث خلافة الرئيس عند غيابه، وتولى رئاسة الجلسات وتمثيل المجلس. ü لقد كنت من موظفي المجلس المحظوظين، إذ شاءت المقادير الطيبة، أن أعمل بجانب د. عبد الحميد كمستشار قانوني في الموقعين اللذين شغلهما، وبالتالي كنت لصيقاً به على مدار اليوم ولسنوات عدة، وهيأ ليّ ذلك أن أعرف الرجل عن كثب واتعلم منه الكثير. ü في البداية كنت أشفق على رجل كدكتور عبد الحميد، عُرف بالاعتداد والوسطية، وتشرب بالروح الوفاقية، من عقابيل وظيفة ناظر الحسبة والمظالم التي تقتضي شدة، وتتطلب غلظة وحِدة، بيد أنه استطاع بحنكته وبعِون ثلة من أعضاء اللجنة المتمرسين، أن يجتاز المطبات الصعبة ويُبحر بالسفينة بين الصخور، بأقل خسائر ممكنة، ونجحت اللجنة في عهده في التصدي للعشرات من القضايا الكبرى وبنجاح مقدر. ü وبذات القدر أفلح الرجل كنائب لرئيس المجلس، في إدارة الجلسات الطويلة الشاقة بصبر وكياسة، وتمكن في مرات لا تحصى من الوصول إلى بر الأمان بعد مداولات ساخنة وملتهبة واختلافات عميقة وصعبة. ü وفي مجال العمل الميداني، كلف د. عبد الحميد صالح بمهام كبيرة، مثل تفقد مصانع ومشاريع السكر وتقييم أدائها، واقتضى ذلك رحلة برية استغرقت اسبوعين شملت كنانة وسنار والجنيد وأعالي النيل، كما ترأس لجنة الخمسة الشهيرة التي بعثها رئيس الجمهورية للجنوب عام 1982م لدراسة الأجواء السياسية، ورفع توصيات بشأن استمرار حكومة اللواء قسم الله رصاص الإنتقالية، أو إجراء انتخابات لحسم الإحتقان والتوتر الذي كان سائداً بين مجموعة النيلِّيين بقيادة الدينكا، وأنصار تجمع الاستوائية الكبرى الذي يضم الزاندي، والباريا، والفرتيت، وغيرهم بقيادة جوزيفُ طمْبرة. (ونواصل في الحلقة القادمة بمشيئة الله)