حين وافقت الدولة على مبدأ تقرير المصير للجنوب.. ووافقت المعارضة بكل أحزابها على هذا المبدأ.. فإن ذلك يعني أن كل الشعب السوداني في الشمال ليس معترضاً على هذا القرار.. فلماذا البكاء والعويل الآن؟! السودان بالجنوب أو بدونه دولة ذات سيادة وذات موارد ضخمة، وحدودها ليست معزولة عن العالم! لهذا فإنني أحذر من الطابور الخامس الذي يحاول أن ينشر الروح الانهزامية بين أفراد الشعب.. ويحاول أن يؤكد بأن خياراتنا عشوائية وغير مدروسة.. لأنها لو كانت كذلك فلماذا كل هذا الهلع! لقد أزعجني والمني التصريح الذي نسب لوزير الخارجية الأسبق والذي يدعو فيه لوقف الانفصال بالقوة؟! إنني لا استطيع أن أتصور أن يصدر مثل هذا التصريح من وزير كان مسؤولاً عن الشأن الخارجي للدولة.. يفترض فيه المامه بأصول اللعبة الدبلوماسية، وقواعد اللعب السياسي، وفوق ذلك قواعد الاتفاقيات الدولية! الرئيس البشير يؤكد دائماً بأنه ملتزم بما وقع عليه حتى ولو اختار الجنوب الانفصال، ويؤكد بأن لا مجال للحرب من جديد، لأن الدولة ما لجأت لحق تقرير المصير إلا من أجل وقف الحرب.. فلماذا كل هذه المزايدات الآن؟! هل عقرت هذه الدولة ولم يعد فيها خبراء يوضحون للشعب بالأرقام والبيانات حجم الخسائر والأرواح التي تنتج عن الانفصال.. الخسائر والأرباح المادية والمعنوية! ولماذا يصبح البترول هو المهيمن الآن ويتباكى المتباكون على خسارته؟ وهل كانت الدولة بحروبها المستمرة في الجنوب منذ عهد الاستقلال حتى استخراجها للبترول قبل سنوات قليلة تصرف من عائد آبار البترول، أم أن الدولة الزراعية المحدودة الموارد في ذلك الزمان قد تحملت كل العبء.. دولة الإنقاذ قد بلغت سن الرشد، واشتد ساعدها، فكيف تعجز عن خلق موارد جديدة، تدعم اقتصادها وتقوي جيشها لمواجهة معطيات السلام. لهذا دعونا ندع الجنوبيين يقررون شأنهم، وإذا اختاروا الانفصال فهذا خيارهم، ونحن لن نعجز عن الدفاع عن دولتنا إذا حاول المتفلتون البحث عن قضية جديدة تشغلهم خاصة في مشاكل الحدود، ولحين حدوث ذلك فليوجه الإعلام آلياته الإعلامية بالدعوة للوحدة الوطنية، خاصة ونحن نلاحظ في هذه الأيام اتجاه المعارضة نحو الجنوب وتنسيقها مع الحركة الشعبية.. لماذا؟.. لست أدري. الحركة الشعبية حددت موقفها بوضوح تام، بأن خيارها وخيار شعبها هو الانفصال.. حسمت ذلك بعد إنتهاء زمن المناورات واللعب بورقة الوحدة الجاذبة. الآن كل اللاعبين يعلمون أن الوحدة لن تكون جاذبة.. فلماذا تركض الأحزاب الشمالية نحو الجنوب، وهي تعلم تماماً أن وقت المناورات قد نفذ، وإن تحالف جوبا لم يعد يعني شيئاً بعد الآن.. وإن القضايا الوطنية لا تناقش مع الحركة الشعبية التي لم تعد تكترث لما يدور في الشمال.. القضايا الوطنية تناقش مع الحكومة القائمة مهما كان رأينا فيها.. فهي حكومة منتخبة، وعلى الحكومة في هذا المنحى الخطير من التحولات السياسية أن تمد يدها للأحزاب الكبيرة وتتفاكر معها في مجمل القضايا الوطنية، حتى تجتاز بلادنا هذه المرحلة الصعبة.لقد كسبت الحركة الشعبية من تحالفاتها مع القوى السياسية المعارضة.. وقد استطاعت بكل سهولة أن توظف التناقضات الناشئة بين الحكومة والمعارضين لها، وبين المعارضين أنفسهم.. واستطاعت أن تمرر أجندتها هي، مما مكنها أن تصبح الرابح الأكبر..! وللأسف لم تحصل الأحزاب الشمالية على أي مكاسب من تحالفها مع الحركة الشعبية.في هذه المرحلة يصبح استمرار التحالف مع الحركة الشعبية نوع من الخيانة الوطنية.. لأن الحركة الشعبية قد حددت خياراتها، ولم يعد أمام تجمع الأحزاب الشمالية إلا الاتجاه شمالاً، والنضال المشروع لكل حزب من أجل نفاذ خياراته.. ونحن نحترم ذلك.. لأنه خيار الديموقراطية.