«الهوية هي فساد المرآة التي يجب أن نكسرها كلما أعجبتنا الصورة» قالها درويش، وكلنا دراويش في حضرة المعنى ومعنى الحضور، لكن ما حدث ويحدث هذه الأيام في إفريقيا الوسطى يكاد يفرغ أوعية الأحرف ويبطل مفعول الكلمات بعد أن تفجرت فخاخ الهوية وأوهامها من جديد وفُقئت عين الأزمة المتورمة في ظلام الليل وظلال النهار.! فمالذي يجري في إفريقيا الوسطى؟.! قال أحدهم إن الشيطان نفسه لا يدري ما يجري فيها ومحتار إزاء أحداثها المتشظية التي أضافت إلى الانسانية جرحاً غائراً، جرحاً أعاد للأذهان هذيان التفاضل بالأعراق والأنساب في عصر التعارف والتثاقف العابر للحدود وتشكل المدن المعرفية وشبكات التواصل التي تحف العالم كما يحيط الكفن بالميت .! معذرة للتشبيه لكن هذه هي الصور المنتزعة من بيئتنا الراسفة في أوهام العنف وعنف الأوهام .! آخر الأخبار القادمة من جور الجوار أن آخر رجل مسلم في مدينة مابيكي قد قتل على أيدي مليشيا مسلحة، صالح ديدو الذي كان يشغل نائب رئيس البلدية والذي آثر أن يواجه مصيره المحتوم بكل شجاعة بعد أن تنكر له القريب وتربص به البعيد أدركته مليشيا غاضبة وهو في طريقه للاحتماء بمركز أمن وذبحته على رؤوس الأشهاد .! هذه الواقعة على فداحتها هي الأقل مأسوية من بين الأخبار والصور التي نقلت بعض التفاصيل المفجعة التي تحكي غلظة الانسان حين ينزع عنه رداء الرحمة وثوب الفطرة .! الآن يبدو المشهد في إفريقيا الوسطى أعقد مما نتصور، إذ تتضافر في رسمه، إدراكات غائرة في اللاوعي، ترى في الآخر أسوأ ما فيه، وترى في الذات أفضل ما فيها، هذا بالإضافة إلى الاسترسال مع الطموحات الجامحة دون أداء الاستحقاق الضروري لإستكمال منجز الدولة الوطنية وضمان استقرارها .! بالإضافة الى الأدوار التي يمارسها الفاعل الخفي الذي يستثمر في توطين الأزمات وإشعال النزاعات وبرغم تناهيه في اخفاء ذاته التي منع ظهورها اشتغال المكان بحركة المصالح فإن آثاره وظلاله تدلان عليه ويكاد كل أحد يبصر وجه المطل من وراء الكارثة .!!! كتب أماريتا صن ذات مرة يقول: إن أزمة الهويات مردها إلى إختزال عوالمها وتضييق آفاقها وهو ما يتجلى على مستويين: الأول، يتخذ شكل التجاهل والإهمال الكلي لتأثيرات الهوية حيث تمضي كثير من النظريات الاقتصادية في تحليلاتها وأبحاثها لتصنيف الناس وكأنهم كلاً متكاملاً لا فروقات بينهم . الثاني، وهو ما يأخذ شكل الهويات الأحادية والإنتماء المنفرد حيث يعتبر الشخص منتمياً إلى جماعة واحدة لا أكثر. والنوعان المشار إليهما قد جانبا الصواب إفراطاً وتفريطاً حسب وجهة صن فكما تشير الدراسات الحديثة ومنها دراسة جورج أكرلوف في أن للهويات أثراً نافذاً في بلورة السلوك الاقتصادي سلباً كتجويز المعاملة بالغش والتطفيف مع الآخر وتحري الأمانة والصدق مع الذات، وإيجاباً كالتعامل بالأمانة مع الذات والآخر على نحو متماثل.. كما أن حصر الهوية في إطار إنتمائي واحد يخالف طبيعة الإرتباط بهويات مختلفة متعددة السياقات.. إذ يستطيع الشخص أن يكون مواطناً بريطانياً من أصل ماليزي وله خصائص عرقية صينية، وسمسار بورصة ونباتي، ومتخصص في علم اللغة، ومعارض للإجهاض، ومنجّم... الخ. هذا التحليل ليس جديداً فقد سبق أن أشار إليه ماركس بجلاء شديد في نقده لغوتا في معرض احتجاجه على رؤية العمال على أنهم عمال فقط دون إستدعاء تنوعهم كبشر متمايزون في كثير من التفاصيل .! قد يقول قائل إن قضية الهويات مسألة مفتعلة وانها في أعلى مراتبها تمثل نتيجة للنزاعات وتسويغها لا سبباً في منشئها.. نقول وهاهنا تكمن خطورتها حين تقود الجموع إلى مهاوي الردى من أوهام الاتساق والانعتاق .!