منح الله هذه القارة من الموارد المادية والبشرية ما يؤهل قادتها أن يستعيدوا لها كرامتها وأمجادها لترسم مستقبلها بسواعدها. ومن هذا المنطلق فإن هذه الزيارة الميمونة التي يقوم بها هذه الأيام صاحب الجلالة الملك محمد السادس، ملك المملكة المغربية، لعدد من الدول الإفريقية ؛ تعتبر زيارة هامة جدا تحمل معاني كبيرة وأبعاد سامية تجسد مدى ثقافة التضامن الفعال التي تم تكريسها كقيمة أساسية في علاقات المملكة مع الدول الشقيقة والصديقة، لا سيما في القارة الإفريقية. وتعتبر هذه الزيارة بمثابة التحام روحي فريد من نوعه نابع من المكانة الروحية للملك محمد السادس، أمير المؤمنين، المدافع عن إسلام وسطي وصوت الحكمة والاعتدال. ويتمتع الملك محمد السادس باحترام عميق عبر ربوع العالم الإسلامي، وهوما جسده الإستقبال الشعبي الحار الذي خصص لجلالته خلال زيارته لمالي والكوديفوار وغينيا كوناكري والغابون. وقد كان لهذه الزيارة بعدا روحيا واقتصاديا لقارة تريد الإيمان بإمكانياتها، وتريد الارتكاز على التعاون جنوب جنوب الذي يعتمد على قوة المملكة المغربية في المجالات الروحية والاقتصادية والإنسانية وفي عمليات حفظ السلام. ولاشك أن هذه الدينامية، كما يرى المراقبون، سينتج عنها دعم فعال لانتشار نموذج الإسلام المعتدل والمنفتح، مع هدف أساسي هو إنقاذ المنطقة من التطرف الديني الذي يهدد منطقة الصحراء والساحل. وفي هذا السياق لا يسعنا إلا أن ننوه بالطابع الحكيم والإستراتيجي لقرار المغرب القيام بتدريب ما يقرب من 500 من الأئمة في مالي وتونس وغينيا وليبيا والكودفوار، تلبية لطلباتها، وذلك من أجل امتصاص منابع التطرف الديني. وقد تميزت زيارة الملك محمد السادس كذلك بالطابع الاقتصادي وهي إشارة للإلتزام الثابت للمملكة في المساهمة القوية للنهوض بالتنمية الشاملة في القارة.وهو ما يظهر جليا في خطاب الملك التاريخي الذي ألقاه في أبيدجان - محطته الثانية في هذه الزيارة الإفريقية -، والذي شدد خلاله الملك على أنه إذا كان القرن الماضي لاستقلال الدول الإفريقية، فينبغي على القرن 21 أن يكون لانتصار الشعوب على ويلات التخلف والفقر والاستعباد. وأضاف الملك: «إفريقيا يجب ألا تبقى رهينة للمشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحالية، بل يجب أن ننظر إلى المستقبل بتفاؤل وعزيمة، وذلك باستخدام كل قوتها وإمكاناتها». ولعلّ أبرز وأهم ما أسسه الخطاب الملكي في كل من الكودفوار وغينيا كوناكري والغابون هو إيمان المغرب بقدرة القارة الإفريقية بإمكاناتها المادية والبشرية على تحقيق آمال شعوبها في التنمية والتقدم من خلال التعاون بين جميع دولها وتطوير آليات الاشتغال على المستويات التي تسمح بخلق قوة اقتصادية عن طريق تحفيز الموارد البشرية والطبيعية واستغلال الإمكانيات الهائلة التي تختزنها القارة الإفريقية، التي لا ينقصها سوى الثقة في النفس والاعتماد على الذات والانخراط في مسلسل التنمية والاستثمار المشترك. وقد كان لتنظيم منتديات اقتصادية في هذه الدول - شاركت فيها بقوة المقاولات المغربية والفاعلين الإقتصاديين بهذه الدول- رمزية خاصة، فهي تشكل من جهة اعترافا بأهمية ومكانة اقتصادياتها ودليلا على ثقة ملكية في آفاقها المستقبلية، كما تعيد الإعتبار للبعد الإقتصادي في العلاقات بين الدول الإفريقية، ذلك أن العلاقات الدبلوماسية بشكلها التقليدي أصبحت متجاوزة ولا تلبي تطلعات الشعوب الإفريقية نحو التقدم والتنمية والازدهار. فالمقاربة الدبلوماسية الكلاسيكية وحدها تحرم بلدان إفريقيا من استثمار إمكاناتها الاقتصادية في ما بينها في إطار تكتلات إقليمية وقارية. ولاشك أن إتفاقيات الشراكة والإستثمار التي وقعت خلال هذه المنتديات والتي تندرج كلها في إطار التوجيهات الملكية الهادفة إلى تعزيز التعاون جنوب-جنوب ستلعب دورا كبيرا في إضفاء دينامية جديدة على العلاقات الإقتصادية المغربية مع هذه الدول وخاصة على الدور الذي يلعبه القطاع الخاص. ويهدف المغرب من ذلك العمل على أن يتقاسم الرؤية ذاتها لتكريس التعاون بين دول الجنوب، وهذه الرؤية تستندُ إلى حرصٍه على أن تظل إفريقيا مستقرة على الصعيدين السياسي والمؤسساتي وعلى العمل من أجل بناء نهضة القارة وكذا رفاهها الاقتصادي، في أفق الاستجابة لتطلعات شعوبها اعتمادا على إمكانياتها الذاتية ومن خلال تحديد الأعمدة الأساسية لتحقيق الإقلاع الاقتصادي المنشود. والمغرب له قناعة بأن بناء القارة السمراء متأتٍ عن طريق العناية بالبنيات التحتية، المفضية إلى تحسين جاذبية الاستثمار، علاوةً على تكريس شراكة القطاع الخاص والعام، والنهوض بقطاع التربية والتكوين والتنمية البشرية، فضلا عنْ اللوجستيك والماء والكهرباء و البيئة ودعم الاستثمارات المدرة للدخل للاستجابة لانتظارات الفئات الفقيرة. وهي أهم القطاعات التي يتمحور حولها التعاون مع الدول الإفريقية. وحضور وفد اقتصادي هام مع الملك المغربي، في هذه الزيارة الإفريقية يندرج في التوجه المذكور خاصة وأن ما ما حققه المغرب من نجاحات في مجال التنمية البشرية والنهوض بالقطاع الفلاحي لتحقيق الأمن الغذائي و خبراته التي راكمها في القطاع المعدني والطاقي، تجارب موضوعة رهن إشارة الفاعلين الاقتصاديين في هذه الدول. يمكن القول بأنه بالرغم من أن المغرب لا يحظى بمقعد في الاتحاد الإفريقي فإنه يواصل على أرض الواقع وبكل إصرار تكريس قناعته بضرورة التعاون جنوب- جنوب عبر السياسة التضامنية التي ينهجها مع الدول الإفريقية، وفيا في ذلك لإرث ممتد عبر التاريخ كانت فيه للمملكة علاقات وثيقة اقتصادية و تجارية وروابط روحية وثقافية وإنسانية مع بلدان إفريقيا جنوب الصحراء. وبالرغم من المنعرجات التاريخية المتعددة التي مرت منها القارة الإفريقية والإكراهات السياسية الظرفية التي تحكمت في فترة من الفترات في توجهات بعض بلدانها فإن المغرب ظل ثابتا على الموقف مخلصا للجذور التاريخية التي تربطه بالدول الإفريقية وفيا لامتداداته التقليدية مع هذه البلدان. وإذا كان المغرب قد سعى على مر الأزمنة لتعزيز العلاقات التاريخية بينه وبين مجاله الإفريقي الذي انخرط فيه بطريقة مميزة طيلة حقبة محاربة الاستعمار فإنه يواصل اليوم هذا التوجه من خلال الدفع بالجهود الرامية إلى تحقيق السلام والاستقرار والتنمية في القارة السمراء. و لذلك جعل المغرب البلد المؤسس لمنظمة الوحدة الإفريقية ( الاتحاد الإفريقي حاليا) من التعاون مع البلدان الإفريقية هدفا يحظى بالأولوية مكن بالفعل من إقامة شراكة استراتيجية حقيقية من أجل التنمية مع هذه البلدان. غير أن جهود المغرب إزاء البلدان الإفريقية تجاوزت المساهمة في التنمية الاقتصادية لهذه البلدان إلى الانخراط في الجهود الرامية إلى تحقيق السلام و الأمن عبر تقديم الدعم الدائم لمبادرات الأممالمتحدة الرامية إلى استتباب الاستقرار في إفريقيا. وأغلب الدول التي زارها ملك المغرب مؤخرا تثمن مساهمته في حل أزماتها التي كادت أن تصيبها بالإنهيار ومنها جهود المغرب في الانخراط في المجهود الرامي إلى مواجهة الحركات المقاتلة التي كانت تتوخى تحويل مالي إلى بؤرة لنشر التطرف الرامي إلى بلقنة دول غرب إفريقيا. وفي هذا السياق يجدر الذكر بأن مقاربة المغرب الإصلاحية والمتعددة الأبعاد وخاصة ما يتعلق بثقافة الإعتدال والتسامح كانت حاضرة أيضا في هذه الزيارة الإفريقية ، فالمغرب الذي سيتولى تدريب عديد من الأئمة الأفارقة وفق مبادئ الإعتدال والتسامح والإنفتاح على الآخر، يؤمن أن الإنتصار على المجموعات المتشددة في المنطقة لايتم بالمواجهة العسكرية التي قد تقويها، لكن من خلال مقاربة حضارية أكثر تأثيرا وفاعلية لدى الناس. ودأب العاهل المغربي في زياراته إلى الدول الإفريقية على استقبال علماء الدين والأئمة ورجال الطرق الصوفية التي تتمركز بغرب إفريقيا على وجه الخصوص، وعلى إدارة حوار معهم حول أوضاعهم وطرق استفادتهم من المغرب. وما ذلك إلا امتداد تاريخي، ذلك أن المغرب كان له دور كبير في نشر الدين الإسلامي في إفريقيا.