ü ضمن الرزمة التي أهدانيها الصديق الطاهر حسن التوم من اصدارات سلسلة ال(100) كتاب، كتابٌ صغير في حجمه كبير في محتواه، يحمل عنوان «مشروعية سلطة الدولة في الفكر الإسلامي» لصاحبه محمد نور مبارك أرباب المحامي، يقع في 174 صفحة من القطع المتوسط، صدرت طبعته الأولى العام الماضي 2013م، عن هيئة الخرطوم للصحافة والنشر. ü مشروعية سلطة الدولة في الفكر الإسلامي، مبحث أكاديمي استقصى موضوعه وأسس له وأصل بالعودة لكل مظان البحث والمعلومات المتصلة، وبذل كاتبه أرباب جهداً لافتاً في جمع مادته وتصنيفها وتأليفها حتى خرج بالصورة التي عليها.. فبعد كل فصل من فصوله الثلاثة تجد صفحات عديدة تحمل المصادر والمراجع والتعريفات، بها إحالات تصل أحياناً إلى أكثر من 90 إحالة تدل القاريء على مصدر المعلومة أو تعرِّفه بكاتب أو فيلسوف أو جماعة مذهبية أو فكرية. ü خصص المؤلف الفصل الأول للتعريف اللغوي والمصطلحي لمشروعية سلطة الدولة في الفكر الإسلامي، وتعريف «الحكم الشرعي» لدى علماء الدين الإسلامي، وتعريف السلطة لدى هؤلاء العلماء وفي المدارس الفكرية الأخرى كالماركسية، ونظرة الفكرة الإسلامي «للسلطة العامة» وضروراتها، كما ذهب إلى تعريف «الدولة» لغوياً وقانونياً ورصد تطورها بين مختلف المذاهب الفكرية والمجتمعات. ü من خلال التعريف القانوني للدولة أبرز الكاتب حقيقة أن الدولة هي نظام قانوني وسياسي يجمع الناس من الجنسين معاً ليعيشوا على سبيل الاستقرار في إقليم معين محدد، يُدين بالولاء لسلطة حاكمة لها السيادة على الإقليم وعلى أفراد هذا الجّمع في حدود المواثيق والعقود التي تبرمها هذه الدولة.. ونبه إلى أن مصطلح الدولة بمفهومه السياسي المحدد في الفكر الإسلامي لم يبرز إلا بعد قرون عديدة على قيام المجتمع الإسلامي، فقد كان المسلمون في عهود سابقة يستخدمون مصطلح «دار الإسلام» أو الأمصار، في إشارة لدولة الإسلام والأقاليم التابعة لها، مثلما استخدموا الإمامة أو الخلافة للإشارة إلى مركز الدولة وسلطتها القائمة. ü توقف أرباب في «تطور الدولة» عند ظهور الدولة القومية أو «الوطنية» الحديثة مع معاهدة «وستفاليا» عام 1648، التي صاغت أطر الدولة الحديثة في أوروبا، بعناصرها الثلاثة المكونة «الأرض، والأمة، والهيئة السياسية»، في حين أن الدولة في الشرق العربي الإسلامي كانت ترتبط- إلى حد كبير- كما قال، بالأمير والدولة، والأرض هي مجرد «تجاور مقاطعات» تعود إلى الأمير نفسه. ü وعندنا، فإن هذا الواقع واقع الإمارة والفتح وعلاقة الجوار والخراج التي هي موروث التجربة العربية- الإسلامية في الحكم، ألقت بظلالها على فكر «الإسلام السياسي» الحديث الذي تعود مرجعياته الأساسية إلى مراحل ما قبل ظهور الدولة الوطنية الحديثة، بما عقّد علاقة هذا الفكر راهناً مع معطيات الواقع المعاصر. ü يشير الكاتب أيضاً، في معرض تأكيده لهذه الحقيقة، من دون إعمال العقل النقدي أو المتفكر في واقع تجارب الحركة الإسلامية الحديثة، إلى: أن الدولة في تراث الفكر الإسلامي ليست دولة عرقية أو حصرية أو دمجية لقوم أو أمة أو منطقة جغرافية، سياسية، إنما هي دولة تجعل الدين والعصبية ركيزتي العمل السياسي وضوابط ممارسة السلطة. وعندي أن هذا الواقع الماضوي الذي يوصّفه الكاتب لا يختلف في كثير شيء عن واقع الدول والامبراطوريات الأوروبية والآسيوية القديمة التي كانت كذلك قوامها الدين والتبشير وسيطرة الكنيسة أو المعابد البوذية أوالزادشتية في عالم تتمدد فيه الدول والامبراطوريات بمباديء الفتح والاخضاع، فتلك قصة حضارات سادت ثم بادت. ü أما عن مبدأ الاستقلال الوطني الذي رعته الدولة القومية والمنظمات الدولية لعهد طويل ولا تزال، فيشير الكاتب- عن حق- إلى بداية تراجع عصر الدولة القومية المستقلة، في ضوء الدعوات المتصاعدة لتفسير «مبدأ التدخل» في شؤون الدول الأخرى لأسباب إنسانية، حيث لم تكن الدولة في العصور الوسطى قد عُرفت بشكلها التي عليه اليوم، بسيادتها المطلقة على مواطنيها وعلى جميع المنظمات الموجودة على أرضها.. ولعبت الحرب على الإرهاب، والاتصالات الحديثة وعجز الدولة في التحكم والسيطرة عليها، وعدم الالتزام بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان والديمقراطية مدخلاً لتضاؤل هذه السيادة، وبرزت الدعوة إلى إعادة النظر بصياغة معنى جديد للسيادة يتفق مع واقع العولمة. ü خصص الكاتب الفصل الثاني من كتابه للنظر في مسألة «الشرعية والمشروعية» في النظم الغربية وموقف الفكر الإسلامي منها، وعرف بالنظريات وتجارب الحكم التاريخية وعلاقتها بالشرعية، منها نظرية «الحق الإلهي المباشر» أو «الثيوغراطية» التي أسست للحكم باسم الله واعتبار الحاكم ممثلاً له وما على «الرعية» إلا طاعته والإئتمار بأمره، وناقش في ضوء ذلك تجارب الخلافة والإمامة الإسلامية في المذاهب المختلفة- السنة والشيعة والخوارج- لينتهي- بعد أن فصل القول- إلى نتيجة واحدة هي طاعة الحاكم، ما لم يرَ منه كفر بواح، حتى لو كان مستبداً ومتغلباً، وهي ذات النتيجة التي نراها في أفكار الإسلام السياسي الحديث، كأفكار أبو الأعلى المودودي، وسيد قطب وآخرين. كما عرّف بالديمقراطية ونظرياتها وعلاقتها بمبدأ الشورى الإسلامي ودور «أهل الحل والعقد» فيه. ü لكن ما لفت نظري هو تعريف الأستاذ أرباب ل«الشرعية الدستورية»، حيث رأى أنها تعني التوافق بين المباديء العامة أو الثقافة السياسية أو الآيديولوجية التي يتمسك بها، ويروج لها النظام السياسي، وبين قناعات الذين يعيشون في كنفه- (أي الشعب!)- وتتطلب ترجمتها في «شكل دستور» يكون بمثابة تعاقد بين الحاكم والمحكومين، وهي تقوم على نظريات الديمقراطية في نشأة الدولة. ü وهي- عندي- تعريف غريب وتوصيف يقلب الأمور رأساً على عقب، فعوضاً عن أن يكون «الشعب مصدر السلطات» في الدولة يكون المصدر هو المباديء والثقافة السياسية والآيديولوجية التي يتبناها الحاكمون ويروج لها نظامهم السياسي ليتم ترجمتها في شكل دستور، دون أن ينتبه الأستاذ أرباب، أو لعل هذا هو ما يؤمن به، أن الدستور في هذه الحالة سيكون معبراً عن الحاكم وليس عن إرادة شعبية، وهذا هو المسمار الأول وربما الأخير في نعش مثل هذا الدستور. ü وفي كل الأحوال، فإن كتاب المحامي محمد نور أرباب «مشروعية سلطة الدولة في الفكر الإسلامي» كتاب يستحق القراءة، لأنه بمثابة «دائرة معارف» مصغرة في موضوعه، لما انطوى عليه من جهد استثنائي استقصى مصادر البحث ومراجعه، ولم يتوغل كثيراً في طرح رؤاه الخاصة، فاقتصر على موافقات واستحسانات غير مباشرة يمكن أن يستنتجها القاريء لنفسه.