أتتني رسالة إلكترونية عاجلة في تمام الساعة التاسعة مساء الاثنين (7/4/2014م) تقول بأن الأمير (الحريكة عز الدين) قد خشع لقول ربه الأعلى: (قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى) وكان يقول لنا: (ابتع فما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا) فتيقنت أن أخي (والي جنوب دارفور) الأسبق (الناظر)- الحريكة- قد ذهب إلى الدار الآخرة بعد أن عانى من ملازمة السرير طويلاً.. والسرير الطويل مع الصبر والتحمل لأقدار الله هو معاناة يمحو الله بها عن العبد الصابر كثيراً من الخطايا والذنوب.. وإن وجهنا ديننا الحنيف أن نذكر محاسن موتانا.. فإني وإن ودعت أرتالاً من إخوتي ومعارفي الأفذاذ قل منهم (عمي/ حامد الجبوري) أو أخي (فتحي خليل) فإن الطريق طريقنا جميعاً.. دون استثناء.. وكل منكم ينتظره اللحاق والعاقبة لمن اتقى.. فإن قلت إن أخي (الحريكة) تعرفه البادية والحضر.. فإن فارقنا هو فإننا قد أخذنا من خصاله وسوالفه ما لا يحصر أو يحصى.. لأن كلاً منا يلم بخصلة قد لا يدركها غيره.. ولذا كان التوجيه لتضافر الجميع.. فقيل لكم (أذكروا) جميعكم محاسن موتاكم.. ليزداد الذين أتوا الفضل فضلاً ويتوارى كل بطيء لا يحسن التتريل والترحيب.. وإنه وإن كان (أميراً) على قومه (المسيرية) في حاضرته (لقاوة) بغرب كردفان.. فإن أهل الخرطوم العاصمة يعرفونه تماماً وخاصة (محلية) بل (محافظة) بحري.. التي تولى سياستها وإدارتها وتحركها كله لفترة ألم فيها الكل بخصاله وهمته ونشاطه وأبوابه الميسورة للناس جميعاً.. وما من مجلس يرتاده القوم أو يطرحون فيه أمراً لسد ثغرة أو لابداء صلح بين متدابرين إلا وكان (الحريكة) هو الخبير العارف بالمداخل والمخارج.. وتقديم الشواهد والبراهين والأدلة المعينة.. وهو من بين الذين قيل لهم.. «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما».. إذ أنه كإداري مارس قضايا القرى والرحل والمدن والحواضر فما من لهجة سودانية أو عرف إلا وهو ألم الناس به.. هذا في نهجه الإداري وخبراته الاجتماعية وإلمامه بمواقف وتقاطعات الأحداث الوطنية.. خاصة قضايا غرب السودان.. لهذا نجده دائماً في مقدمة زعامات الحكم المحلي والتحوط الإقليمي والمبادرات الزمانية والمكانية.. ولم نتحرك أبداً يوماً من العاصمة إلا ونصلي الفجر بمنزله ومحط القادمين والعابرين بمدينة (لقاوة) الصامدة.. إذ تجد أنت منزله هذا تتوسطه (التبلدية) الضخمة الحانية العريقة.. وتجد (الراكوبة) التراثية التي نسقت فيها إبداعات المرأة.. كالبروش المنمقة صغيرة وكبيرة.. والبخص الموشاة.. والكؤوس المطرزة.. والكرايو المزينة والدرنقل والسعون.. وغير ذلك.. كثير.. فلا تتجاوز بيت (الحريكة) إلا وأنت تنشد قائلاً: يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا ü نحن الضيوف وأنت رب المنزل وفي تجوالنا- خاصة عندما كنت أنا وزيراً للزراعة بغرب كردفان نهاية التسعينيات- وأكثر التجوال في (اغسطس) عز الخريف ومعاقل الرحل- لنصل إلى (أبيي) كنت أجد في (الفرقان) والبوادي.. أجد ابنه (الصادق) وهو يقف بسيارته (البوكس) وسط هذه البوادي وتحت ظلال الأشجار وهو يجمع العرب الرحل رجالاً ونساء واطفالاً.. ونجده يعرض عليهم على شاشة التلفزيون المتحرك شريطاً ترويحياً لأمر يلفتهم جميعاً ويشرح صدورهم.. إذ قد توقفت (السينما) المتجولة منذ عهد بعيد.. فحين أحضر أنا راجعاً (للخرطوم) وأذكر للمحافظ (الحريكة) ذلك.. يطمئن أن ابنه (الصادق) سيخلفه بتجرد وخبرة- ويدعو الله له- وهكذا كما يقول الشاعر العربي: وينشأ ناشيء الفتيان مناü على ما كان عوده أبوه وهذا الشاب صار وكيلاً بين اشقائه وأهله كلهم.. وهو يستقبل (أي الصادق) في ذلك الصالون والراكوبة كل قادم للمنزل بلقاوة.. وعندما أنزلت يوماً مقالاً بصحيفة (آخر لحظة) هذا عنوانه (شال.. الحريكة) إنما رميت من ذلك أنه (أي الحريكة) في إحدى جلساتنا للتوفيق بين متعاركين.. فكان من حكمته أن وضع قطعته تلك (أي شاله) للوفاق بين الأطراف بحجة صاغها بذكاء وحكمة ودراية.. فألجمت المتخاشنين.. والأوقع من ذلك أننا حين جلسنا لخبراء المحكمة الدولية من (لاهاي) التي هتف عرب جبل أولياء قائلين (لاهاي.. لاهاي.. كضب ساي) في تلك الجلسة عن (أبيي) أمدنا (الحريكة عز الدين) في تلك المحاججة (بخمسين) وثيقة تثبت التاريخ وتحركات قاطنيها من قبل عام (1905) وهي أدلة قاطعة اسكتت كل المغالطات.. إذ كان (الحريكة) خلال تلك الحقب يحوز على المكتوب والمنطوق.. لدرجة أن خبراء التحكيم طلبوا إلينا أن يُمهلوا ويعطوا سانحة ليذهبوا من (أبيي) لدار الوثائق السودانية بالخرطوم.. ثم الملحقات بالقاهرة.. ثم مؤشراتهم الأخرى بلندن.. ليأتوا من بعد ذلك لاصدار رأيهم في قضية (أبيي) فكان إذن محركنا ودليلنا والمرجعية هو هذا الضابط الإداري وقتها بهذه الأغوار والفيافي التي لا يعبرها أو يجول بها إلا صاحب عزم ومرجعية.. بل صاحب وطنية دائبة.. ولا تزال وثائق (الحريكة) (رحمه الله) اليوم.. وأنجاه.. لا تزال (أي الوثائق) هي وغيرها المصادر والمراجع التي لا تعلو فوقها حجة أخرى.. فألا رحم الله (الحريكة عز الدين حميدة) وأسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء والصالحين.. وحسن أولئك رفيقاً.. والله أكبر..