ومع «محمود إبراهيم علي» كانت الانطلاقة عبر شارع فسيح، هو شارع الملك عبد العزيز، والمدينة التي أراها لأول مرة، مدينة حديثة وجديدة وجميلة ونظيفة، إنها ليست الصحراء التي كنت اتوقعها، بل هي مدينة ثرية، تتلألأ بالنظافة والسيارات الكثيرة جداً، والجديدة جداً، والمسرعة لدرجة الجنون والتهور. قلت في نفسي «هذا عالم جديد»، وكنت أنظر إلى الأرض متأملاً، فأرى لون تربتها مختلفاً عن أرض بلادنا الطينية السوداء الخصبة التي سرنا على ثراها، وألفنا سمرتها، ونفخر بالانتماء لها، أرض أجدادنا وآبائنا وأحفادنا من بعدنا، فالتربة هنا بيضاء فاتحة، الأرض رملية وصخرية، لكن لا يوجد تراب فالأرض كلها مكسوة بالأسفلت، وهي ظاهرة لم نعهدها في مدننا المتربة التي تسفلت شوارعها الرئيسة فقط. ثم وصلنا.. وولجنا إلى بيت (العزابة) في حي الوزارات بالرياض، غير البعيد من المطار القديم، في ذلك اليوم الصيفي في شهر اكتوبر 1981، وهو يوم أراه مكتظاً بالأحداث، فمن (أزرق والتكينة) ووداع الأهل والعشيرة، إلى مطار الخرطوم الدولي، وبرفقتي شقيقي المرحوم معاوية محمد عوض الله، وابن الخال عبد المتعال رحمة الحسن، ثم النداء السريع من ابن العم الطيب الفكي الأمين (جيب جنيهين) رسوم المغادرة. واذكر أن الرحلة تأخرت وبتنا في المطار، لنغادر على الخطوط السعودية في السابعة من صباح اليوم التالي وكان يوم الأحد، ثم وصلنا جدة، كنت حريصاً بروح الإعلامي المتيقظ على أن لا أترك شاردة ولا ورادة، وأن أقرأ مشاعري وأنا أغادر الوطن، ولم يكن الشعور طبيعياً، فقد تركنا القرية منذ زمن بعيد، فعندما كنا صغاراً تركنا المنزل للفريق لنلعب مع أقراننا، وتركنا القرية للمدرسة التي كانت في السريحة على بعد 5 كيلو مترات، نقطعها مشياً على أقدامنا الصغيرة ولخمس سنوات، ثم تركنا القريتين للمدرسة الوسطى في «كاب الجداد»، كنت أول اللجنة متفوقاً على طلاب 14 مدرسة أولية، ثم تركنا «كاب الجداد» التي تبعد عن أزرق ما ينهاهز ال10 كيلو مترات إلى مدرسة «حنتوب» الثانوية العليا التي تبعد عن أزرق أكثر من 120 كيلو متراً، ثم تركنا حنتوب إلى العاصمة للدراسة الجامعية، ثم ها هو مشوار الانتقال من بلد صغير إلى مدينة كبيرة، ثم من الوطن كله إلى خارج حدوده. هذه الأسفار أو هذا الارتحال، ولَّد في النفس حباً لا يجارى للوطن وأهله وناسه وإرثه، فنحن لم نشعر بتميزنا الكبير على الكثير من الشعوب، إلا عندما عاشرناهم هنا خارج حدود الوطن، وهو وسم ورمز لا نبدله بغيره، قد نكون فقراء ليس لنا المال الوفير، قد لا تعجب سمرتنا بعض البشر، قد يحسدنا البعض على معارفنا وكفائتنا وإخلاصنا في أعمالنا وتفوقنا عليهم، وقد يكون وطننا تعرض للتمزق، وصار في جرف هارٍ ، وهوت به الريح في قرار سحيق من الحروب والاقتتال بين الإخوة، لكننا لا نبدله بوطن آخر حتى الممات، وكلنا في مغترباتنا الموحشة نحلم بالعودة إلى حضنه وسنعود حتماً سنعود، إننا كذاك الطفل الذي يصفه بدر شاكر السياب في أنشودة المطر بقوله: تثاءب المساء، والغيومُ ما تزالْ تسحُّ ما تسحّ من دموعها الثقالْ كأنِّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينام: بأنَّ أمّه- التي أفاق منذ عامْ فلم يجدها، ثمَّ حين لجّ في السؤال قالوا له: «بعد غدٍ تعودْ».. لا بدَّ أن تعودْ وإنْ تهامس الرفاق أنهَّا هناكْ في جانب التلّ تنام نومة اللحودْ إن بلادنا الآن تعاني، لكننا نحبها، وسنعود إليها مدفوعين بحب فطري لا يوصف، وعاطفة جياشة كالسيل العارم، لا شبيه لها ولا مثيل.. في بيت محمود إبراهيم وجدت مجموعة من أقاربه المرحوم إبراهيم حسن إدريس، وشقيقه مأمون، وعلي عثمان فزع، وهو شقيق الفنان الراحل عبد الدافع عثمان، الذي تركته وقتها وهو يعمل في إذاعة أم درمان، وكان هناك الشفيع ثم تعرفنا بمرور الأيام على العديدين من أولاد أم درمان، معاوية حسن صديق وكان ضابطاً بالجيش «نقيب» ترك الخدمة وجاء للعمل في المستشفى العسكري بالرياض في السيكيورتي، والفاتح وصلاح أولاد ميرغني المأمون، وحسن عمرين خالد، وعبد الحميد أبو الفاتح، وكانوا صحبة طيبة، حياتهم متميزة حياة أولاد المدن من حيث النظام والنظافة والطعام الجيد، وقد يبرز تمدنهم في أنهم كانوا يشترون الآيس كريم بالكميات ذات العبوات الكبيرة، وكان يوضع على المائدة بكميات تكفي كل الحاضرين، كما كانوا يحرصون على سلطة الفواكه، أضف إلى ذلك نوعية الكلام والزي والعطور، وحتى المتاجر التي يتسوقون منها، ولا أنسى محل العمّاري بتشديد الميم في شارع الوزير الذي كان محمود يشتري منه الأقمشة الصوفية وغيرها، باعتباره أحسن محل في هذا المجال، وحلويات القباني بالشارع نفسه التي كانوا يرسلون منها الباسطة والكنافة لأهلهم في أم درمان، ثم هذا الترتيب في الاستيقاظ وشرب القهوة ثم التعطر «بكلونيا الصباح»- كما يقول محمود- وهو يعطر نفسه ويعطيني قارورة العطر قبل الخروج من المنزل، وهكذا كنت ألمس الفرق بين أولاد المدن، وبين أولاد القرى، وقد كانت تلك الملاحظة قديمة قدم دراستنا مع أولاد المفتشين في مدرسة السريحة الأولية، فقد كنت تلاحظ الفرق بينهم وبين أولاد القرى، في أشكالهم وأزيائهم النظيفة جداً والمكوية، وفي سندوتشات الجبن والزيتون، وما يحضرونه من تفاح، خاصة زميلتنا «ايمان بنت المفتش بابكرك الكومي» وأخيها ماهر، وأبناء الباشمفتش حسن حسين طاهر «جمال ومنال» وغير هؤلاء من أبناء العاصمة، حتى أن زميلنا «نادر نجم الدين» وهو من الحلفايا، وكان والده نائباً لمحافظ مشروع الجزيرة، ويقيمون في ري الترابي، كان نادر يعلم زملاءه كيفية أكل أو تناول الشندوتشات «طولياً» وليس أفقياً، ليس في كل هذا ما يعيب أبناء القرى، فهذه ثقافتهم وحياتهم وتقاليدهم التي نشأوا عليها، كما أن الناس تتعلم من الناس، والحضارات الإنسانية في مجملها نقل ونسخ وتقليد واتباع للأحسن، وإلا فمن الذي ولد متعلماً كما يقول «الإمام الشافعي» في حثه على طلب العلم وعدم الاستحياء من ذلك في قوله الشهير: تعلم فليسَ المرءُ يولدُ عالماً ü وَليْسَ أخو علمٍ كَمَنْ هُوَ جاهلُ وإنَّ كَبير القَوْمِ لاَ علمَ عِنْدَهُ ü صَغيرٌ إذا التَقَّتْ عَليهِ الجَحَافِلُ وإنَّ صَغيرَ القومِ إنْ كانَ عَالِماً ü كَبيرٌ إذا رُدَّتْ إليهِ المحَافِلُ