أهداني د. إبراهيم الأمين -مشكوراً- نسخة من كتابه الجديد، وقتاً ومعنى ومبنى، فقد تفضل بدعوتي إلى عيادته وأهداني واحدة من النسخ الثلاثة التي زودته بها مطبعة جامعة الخرطوم «كعينة» انتظاراً للمزيد. ولمن لا يعرفون د. إبراهيم إلا من خلال كتاباته الراتبة في الصحف، فإن إبراهيم الأمين الطبيب مثقف وطني كبير انخرط منذ وقت باكر من شبابه في النشاط السياسي من خلال حزب الأمة القومي والمنظمات الطوعية المدنية ودفع ضريبة كبيرة من حريته في سبيل قناعاته، واستطيع أن أدعي أنني أعرف عن شجاعته وصموده وسجاياه السمحة المتمثلة في السماحة والعطف والكرم والتواضع أكثر من غيري، فقد جمعتني وإياه أيام العسف وليالي الظلم الكالحة فكان بيننا قمراً منيراً يضيء الظلمة ويبدد وعثاء النفوس المكدودة في سكة ذلك «السفر الطويل» على طريق حرية الشعب وكرامته وديمقراطيته، فهو من صنف الرجال الذين يدّخرون للنائبات وأوقات «الحوبة». يجيء كتاب د. إبراهيم الأمين «الصراع حول المياه في حوض النيل.. من يدفع الثمن؟» في وقته تماماً، حيث بلغ النزاع بين دول حوض النيل الأعلى -دول المنبع- وحوضه الأسفل السودان ومصر خصوصاً مرحلة خطيرة واتخذ شكل مواجهات سياسية فشلت حتى الآن جولات التفاوض المتعددة والمتطاولة في بلوغ أطرافها إلى كلمة سواء، ولا يمكن التنبؤ منذ الآن بالمدى الذي يمكن أن تبلغه أو تنتهي إليه، بعد أن بدأ البعض يتحدث عن إمكانية التصعيد الذي قد يبلغ مرحلة «حرب المياه»، إن لم تتحل دول الحوض بالحكمة والرشد وسعة الأفق وروح التعاون والإيثار. يقع الكتاب في 463 صفحة، وقدم له كل من المهندس يحيى عبد المجيد وزير الري الأسبق ود. (مهندس) سيف الدين حمد عضو لجنة التفاوض حول مياه النيل اللذان هنآ د. إبراهيم بهذا «الإنجاز الرائع» وقالا: إن د. إبراهيم تمكن من جمع مادة غزيرة يصعب على الباحث المتمرس وضعها في مرجع واحد، وهذا بسبب خبرته السياسية الثرة، وإن ربط المياه بالسياسة تطور طبيعي لعلاقة هامة حيث يمثل البعد الجيوبولوتيكي للمياه حافزاً لربط المياه بالسياسة واستغلال المياه لمنفعة البشرية جمعاء. وفي مقدمته للكتاب، الذي مثل التوثيق مادته الأساسية، مشفوعاً بقدر أقل من التحليل والتنبؤآت، لفت الكاتب النظر إلى مخاطر التصحر والجفاف التي تهدد بلادنا بالرغم من الحديث «المعمم» عن وفرة المياه، وأورد في ذلك نسباً مخيفة تنبه لحقيقة تلك المخاطر: (30%) من مساحة السودان صحراء و(25%) أخرى مهددة بالتصحر، بالإضافة إلى تحديات كثيرة فيما يخص استغلال موارده المائية، أبرزها التغيرات الزمانية والمكانية وقصر مواسم الأمطار في مواقع الزراعة المطرية والثروة الحيوانية، بالنظر إلى التبدلات المناخية التي تنتظم الكرة الأرضية جراء ارتفاع درجات الحرارة نتيجة لتكاثف الغازات في الغلاف الجوي المنبعثة من الصناعات النافثة لثاني أكسيد الكربون وغيره من المواد الضاره بالبيئة. ينبه د. إبراهيم في المقدمة كذلك إلى ضرورة الاهتمام ب«الأمن المائي) على قاعدة «أن لا أمن عسكري لأمه من الأمم خارج أمنها الاقتصادي، وذروة الأمن الاقتصادي هو الأمن الغذائي، وعصب الأمن الغذائي ومُنتجه هو الأمن المائي» ويشير إلى أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي استوعبت هذه القضية والتعامل معها بما يخدم مصالحها، وهي مصالح متعارضة في النهاية مع مصالح شعوب المنطقة، بعد أن احتلت الأراضي وشردت الفلسطينيين وتسعى اليوم للسيطرة على موارد المياه، وفصّل في استراتيجية إسرائيل بعيدة المدى لتحقيق هذا الهدف والدراسات التي عكف عليها خبراؤها منذ وقت مبكر حول منابع الأنهار في البلاد العربية وحولها وعن مصادر المياه الجوفية. كما لفت د. إبراهيم الأنظار إلى القيمة الاقتصادية للمياه التي يتجاوز عنها البعض ويعتبرونها سلعة مجانية، بينما تطرح بعض الدول والمنظمات الدولية سؤالاً عن لماذا لا يتم تسعير المياه والتعامل معها كسلعة اقتصادية..؟ والى المطامع الإسرائيلية في الحصول على المياه من روافد نهر النيل عن طريق «ترعة السلام» العابرة لقناة السويس بعد توسيعها، بعد أن تدفع الثمن وتفرض على مصر والسودان السماح لها بالعبور دون عوائق. الكتاب يتكون من تسعة أجزاء، يهتم الأول بتاريخ السودان وممالك النيل القديمة والنزاعات حول الأراضي والمياه والذهب والأنشطة الاستعمارية التركية والحركات الاستكشافية الأوربية حول منابع النيل وروافده، بينما يقدم الجزء الثاني وصفاً عاماً لمنابع النيل جنوباً وشرقاً، ويستعرض استخدامات المياه في دول الحوض واحتياجات مصر والسودان الاستراتيجية الزراعية والقدرة التخزينية للسودان وتأثيرات المشروعات الأثيوبية على قدرات السودان التخزينية على النيل الأزرق. ويستعرض الجزء الثالث المعاهدات والاتفاقات التي تنظم استغلال مياه النيل في فترة النفوذ الأوربي واتفاقية 1959 على أيام حكم الفريق إبراهيم عبود وما ترتب عليها من تباين في وجهات النظر بين دول الحوض استمرت حتى اليوم، بينما خصص المؤلف الجزء الرابع لعرض مقارن لبعض الاتفاقات الدولية حول المياه، وجاء الجزءان الخامس والسادس مكملان للثالث والرابع بهدف تزويد القراء بالثقافة القانونية الدولية التي تؤطر لتوزيع المياه بين الدول المشاطئة للأنهار والمجاري المائية الدولية. واهتم الجزء السابع بالأحوال المناخية الضاغطة ومترتباتها السالبة على موارد المياه، مع ارتفاع درجات الحرارة وذوبان الجليد وقلة الأمطار وتباعد مواسمها والفيضانات والاهتمام الدولي بالقضية التي أصبحت تؤرق العالم بشكل غير مسبوق. أما الجزء الثامن فيعالج الدعاوى الإسرائيلية وحرب المياه المنتظرة ومشروع الدولة اليهودية للوصول إلى مياه النيل بشكل مفصل بينما خصص د. إبراهيم الفصل التاسع والأخير من كتابه لعرض جملة من المقالات المختارة لمفكرين ومختصين مصريين في مجال المياه تأكيداً للاهتمام المصري التاريخي والحاضر بقضايا المياه. الكتاب وثيقة سياسية واقتصادية واجتماعية وتاريخية مهمة اتت لسد فراغ بائن ومزعج في المكتبة السودانية في واحدة من أخطر القضايا الاستراتيجية المعاصرة «قضية المياه» وهذا ما يجب أن يستمطر شكر الجميع لدكتور إبراهيم الأمين، ونرجو أن يجد الكتاب ما يستحقه من اهتمام الدولة والمجتمع.