صلاة يعبيص :- في سفر أخبار الأيام الأول الإصحاص الرابع يذكر شخصاً ولد في ظروف حزينة فأعطته أمه إسم " يعبيص " أي العابس أو الحزين و لكن هذا الحزين جاء إبداعه في إنه رفع قلبه إلي الله بالصلاة و جاءت صلاته موفقة مخترقة أعماق السماء و حظيت بالإستجابة ، و لقد قال في صلاته : ليتك تباركني و توسع تخومي و تكون يدك معي وتحفظني من الشر حتي لا يتعبني ، و صار يعبيص هذا أشرف إخوته لأنه لم يستسلم للحزن الذي حمله في إسمه و لكنه غير المسار بالكفاح و الصلاة و أعطاه الرب سؤل قلبه. و عندما كان يعقوب راجعاً إلي وطنه تاركاً بيت خاله و أبو زوجته راحيل الجميلة المحبوبة جاءت إليها آلام المخاض، و كانت القابلة تشجعها بأن القادم هو الولد الثاني لها بعد يوسف، و لكن الولادة تعسرت حتي الموت و قالت أن يسمي الطفل القادم إبن أوني أن إبن حزني ، و لكن يعقوب الذي صنع الإبداع في حياته بطرق متعددة رفض هذا الإسم و قال بل يسمي " بنيامين " أي إبن يميني، و اليمين هنا يرمز للقوة ، و المولود يعد إبن القوة ، و كان الأب يرجو أن يكون هذا الأبن ذراعه اليمين ، و عاش الطفل نمواً في محبة أبيه الذي حمل رائحة أمه المحبوبة التي لأجلها خدم يعقوب خاله أربع عشرة سنة كانت مهراً غالياً دفعه عن طيب خاطر ، و عندما جاء أبناء يعقوب إلي مصر في زمن المجاعة و وقفوا أمام يوسف أخاهم و هم لا يعلمون طلب يوسف أن يحضروا أخاهم بنيامين ، و عندما عادوا مرة ثانية إلي مصر أحضروا أخاهم رغم رفض يعقوب لأنه كان له إبنان غائبان يوسف الذي لا يعرف أين هو، و شمعون الذي حجزه يوسف ، و قال يعقوب : يوسف مفقود ، و شمعون مفقود، و بنيامين تأخذونه، صار كل هذا عليّ. البؤساء و الإبداع :-و السؤال الآن : هل ما زال البؤس يصنع الإبداع ؟ و أجابتي و لماذا لا ؟ إن الإبداع يولد من رحم البؤس و الضيق و بواسطة البؤساء أنفسهم عندما يحملون نفوساً كباراً و يجتازون ضيقات الحياة و يبدعون و يتألقون إبداعاً فيرسمون أجمل اللوحات و يكتبون أجمل و أعظم الكلمات ، لأن لهم مشاعر مرهقة و لأنهم يقصدون أن يخرجوا من بؤس الحياة إلي سعادتها و نعيمها، و عندما يرفع أحد البؤساء قلبه إلي الله فإن الله يهيئ له طريق النجاح فلقد كان يوسف مع الرب و كان رجلاً ناجحاً، كل ما يصنعه كان ينجح ، فلقد دخل إلي بيت فوطيفار و وجد نعمة في عين سيده ، و رأي فوطيفار أن الرب مع يوسف و أن كل ما يصنع كان الرب ينجحه بيده ، فوكله علي بيته ، و علي كل ما كان له، وجاءت البركة إلي بيت فوطيفار رئيس الشرط بسبب يوسف ، وترك كل ما كان له في يد يوسف ، و لم يكن معه يعرف شيئاً إلا الخبز الذي يأكل ، و كان يوسف جميلاً جداً حتي إن إمرأة فوطيفار عندما عاب عليها صديقاتها من النساء أعدت لهن متكآت و أتت كل واحدة منهن سكيناً و قالت : أخرج عليهن فلما رأينه أكبرهن و قطعن أيديهن و قلن حاشا لله ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم ، و لكن جمال يوسف الذي أعجب النساء كان سبب متاعبه أما جماله الروحي و تمسكه بالله و رفضه للشر و قوله : رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه و قد ركز القرآن الكريم علي جمال الروح ونعمة الإلتزام عند يوسف ، و جاء فيما بعد إبداع يوسف من رحم البؤس الشديد الذي تسبب فيه إخوته ثم إمرأة سيده. و تطرح الإستاذة المغربية إكرام عبدي هذا السؤال هل ما زال البؤس يصنع الإبداع؟ و تقدم إجابتها في عدد ديسمبر 2008م في مجلة العربي و تقول في تاريخ الفكر الإنساني إرتبط الإبداع عادة بالمعاناة و البؤس، و طلت صورة المبدع في الذاكرة الجماعية ذلك الإنسان البسيط المهمش ، الذي يكتب بقلم مغموس في حبر الفقر والشقاء ، لا تعيقه أهوال الحياة و أعاصيرها ، يكتب و لو في بطن الحوت ، و مداخلتي هنا عن النبي يونان أو يونس ذو النون إلذي صلي في جوف الحوت صلاة تحفظها الأجيال و يسجلها الكتاب المقدس، و تستمر إكرام في القول بأن المبدع لو تحول الفقر إلي رجل فهو لا يقتله لأنه يحس بقلمه إنه سيد نفسه، و يشعر في إختلاف تفكيره بأنه متميز ، وتتزايد ثقته بنفسه و عزته، و لا يصرخ إلا في وجه جلادي الكلمة المضيئة ، و لا يطمح إلا لهامش صغير للبوح، و إلي مساحة صغيرة للتعبير بعيداً عن رقابة السلطة و أعينها فقط لكي يبصر أحسن و ينتقد أكثر. و تستمر إكرام في الإجابة فتقول: هكذا عودنا مبدعونا ، يحرسون مملكتهم الإبداعية في صمت و إمتلاء وسمو و شموخ ، يؤمنون أن من ينتج ذهباً صقيلاً من الكلمات لا يحتاج إلي كنوز العالم ، و جبران تساءل يوماً: من يبيعني فكراً جميلاً بقنطار من الذهب؟ و يصرون علي صنع الحياة و لو من صحاري الألم و التجارب الجميلة ، إن « فان كوخ» عضه الفقر ، لكنه ظل يرسم بإستمرار ، و « تشايكو فسكي » ظل يلحن و إن أنشبت الفاقة أنيابها فيه ، و الروائي المغربي محمد شكري إشتكي في طفولته من الخبز الحافي و لكنه سرعان ما غمسه في مرق المتعة و الجمال و الإبداع ، و القاص محمد زفزاف ضاق مسكنه لكن عباراته كبرت و رؤيته إتسعت لأن الفقر لا يمنع و لا يعيق الإبداع بل يعيقه القحط و الجفاف الروحي ثم تطالب إكرام برعاية المبدعين لأن هؤلاء قد نجحوا بصدق في تطهير أرواحنا من قذارة العالم ، إن محمود درويش كان يقول : إن الشعر هو دارية و دراسة ، و مثابرة لتلميع الكلمات كي تظل مشرقة علي الدوام و ليس مجرد إلهام و شيطان أبله .